غَائِب ننْتَظِرُهُ بِشَغَفٍ
شَرَعَ الله لِعِبَادِهِ مَوَاسِمَ الطَّاعَاتِ، وَهَيَّأَ لَهُمْ مَيَادِينَ التَّنَافُسِ فِي الْخَيْرَاتِ.
وإِذَا كَانَتِ السَّاعَاتُ الْقَادِمَةُ سَتَأْتِي مَعَهَا بِغَائِبٍ تَنْتَظِرُهُ بِشَغَفٍ قُلُوبُ الْمُؤْمِنِينَ ، وَتَسْتَقْبِلُهُ بِلَهْفَةٍ نُفُوسُ الْمُتَّقِينَ ؛ فَحَرِيٌّ بِكُلِّ عَاقِلٍ أَنْ يَغْتَنِمَهُ فِي التَّزَوُّدِ مِنَ الأَعْمَالِ الصَّالِحَاتِ ، وَيَكُفَّ فِيهِ عَنِ الْمَآثِمِ وَالْمُنْكَرَاتِ ؛ لِئَلاَّ يَخْسَرَ مَا اغْتَنَمَهُ مِنَ الْمَكَاسِبِ الْعَظِيمَةِ ، وَلاَ يُضَيِّعَ مَا كَسَبَهُ مِنَ الْحَسَنَاتِ وَالأُجُورِ الْكَرِيمَةِ .
قَالَ اللهُ تَعَالَى :
أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ
[المؤمنون:115]
فَالْعَاقِلُ لاَ يُبَدِّدُ مَا حَصَّلَهُ فِي سُوقِ الْحَسَنَاتِ بِفِعْلِ مَا يُذْهِبُهَا لِيَرْجِعَ بِخُفَّيْ حُنَيْنٍ خَالِيَ الْوِفَاضِ .
وَلاَ يَخْفَى عَلَيْكُمْ أَنَّ كَثِيراً مِنْ وَسَائِلِ الإِعْلاَمِ بِشَتَّى أَنْوَاعِهَا تَتَسَابَقُ فِي الشَّهْرِ الْمُبَارَكِ خَاصَّةً تَسَابُقاً مَحْمُوماً لِرَفْعِ رَصِيدِهَا مِنْ بَيْنِ الْمُتَسَابِقِينَ وَخَطْبِ وُدِّ الْمُشَاهِدِينَ وَالْمُتَابِعِينَ دُونَ النَّظَرِ إِلَى جَوْدَةِ مَا تُقَدِّمُهُ أَوْ رَدَاءَتِهِ ، وَلاَ مُرَاعَاةِ مَا تَعْرِضُهُ لِلنَّاسِ أَوْ مُنَاسَبَتِهِ ، فَهِيَ لاَ تُفَرِّقُ بَيْنَ الْغَثِّ وَالسَّمِينِ ، وَلاَ بَيْنَ الضَّارِّ وَالنَّافِعِ ، وَإِنَّمَا كُلُّ هَمِّهَا أَنْ تَنَالَ الشُّهْرَةَ وَتُحَقِّقَ الأَرْبَاحَ الْمُتَصَوَّرَةَ ، فَكَمْ تَعْرِضُ مِنْ أَفْلاَمٍ وَمُسَلْسَلاَتٍ ، وَبَرَامِجَ وَمُسَابَقَاتٍ ، وَأَغَانٍ وَمُنَوَّعَاتٍ ، لاَ يَكَادُ يَخْرُجُ مِنْهَا صَائِمُ النَّهَارِ وَقَائِمُ اللَّيْلِ بِفَائِدَةٍ مَرْجُوَّةٍ فِي دِينِهِ وَآخِرَتِهِ .
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ :
قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم :
«نِعْمَتَانِ مَغْبُونٌ فِيهِمَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ : الصِّحَّةُ وَالْفَرَاغُ» .
[رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ]
وَقَدْ عَلِمْتُمْ أَنَّ الْغَايَةَ مِنْ صِيَامِ النَّهَارِ وَقِيَامِ اللَّيْلِ هِيَ :
بُلُوغُ تَقْوَى اللهِ جَلَّ فِي عُلاَهُ ، وَتَزْكِيَةُ النَّفْسِ وَالاِرْتِقَاءُ بِهَا إِلَى نَيْلِ رِضَاهُ .
كَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى :
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ }
[البقرة:183]
وَلَيْسَتِ الْغَايَةُ أَنْ يَجُوعَ الْمُسْلِمُ وَيَعْطَشَ ، إِنَّمَا الْغَايَةُ تَزْكِيَةُ النَّفْسِ وَتَدْرِيبُهَا عَلَى الصَّبْرِ عَلَى الطَّاعَاتِ ، وَالاِصْطِبَارِ عَنِ الْمَعَاصِي وَالْمُنْكَرَاتِ .
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ :
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم :
«لَيْسَ الصِّيَامُ مِنَ الأَكْلِ وَالشُّرْبِ ، إِنَّمَا الصِّيَامُ مِنَ اللَّغْوِ وَالرَّفَثِ» .
[رَوَاهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ وَالْحَاكِمُ وَالْبَيْهَقِيُّ]
مَنْ لَمْ يَحْفَظْ جَوَارِحَهُ عَنِ الْمُحَرَّمَاتِ وَالْمُنْكَرَاتِ ، فَيَصُونَ قَلْبَهُ عَنِ الْحِقْدِ وَالْحَسَدِ وَسَائِرِ الأَدْوَاءِ وَيُعِفَّ لِسَانَهُ عَنِ الْقِيلِ وَالْقَالِ وَالشَّتَائِمِ وَالسِّبَابِ وَيُنَزِّهَ عَيْنَهُ عَنْ نَظْرَةِ الْحَرَامِ وَيَنْأَى بِأُذِنِهِ وَسَائِرِ جَوَارِحِهِ عَنِ الآثَامِ فَلَيْسَ للهِ حَاجَةٌ فِي مِثْلِ هَذَا الصِّيَامِ .
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم :
«مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالعَمَلَ بِهِ ؛ فَلَيْسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ فِي أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ» .
[رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ]
وَلَيْسَ لَهُ مِنْ صِيَامِهِ إِلاَّ مُكَابَدَةُ الْجُوعِ وَالْعَطَشِ ، وَلاَ مِنْ قِيَامِهِ إِلاَّ السَّهَرُ وَالتَّعَبُ .
قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم :
«كَمْ مِنْ صَائِمٍ لَيْسَ لَهُ مِنْ صِيَامِهِ إِلاَّ الْجُوعُ وَكَمْ مِنْ قَائِمٍ لَيْسَ لَهُ مِنْ قِيَامِهِ إِلاَّ السَّهَرُ» .
[رَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ وَالنَّسَائِيُّ فِي الْكُبْرَى]
فَحَافِظْ عَلَى صَوْمِكَ مِنَ الزَّلَلِ ، وَاحْذَرْ ذَهَابَ أَجْرِ الْعَمَلِ ، فَأَنْتَ أَوْلَى بِحَسَنَاتِكَ مِنْ أَنْ يُذْهِبَهَا لُصُوصُ الْحَسَنَاتِ مِنْ أَهْلِ الْفَنِّ وَالْغِنَاءِ .
فَحَسَنَاتُكَ رَصِيدُكَ وَجَوَازُكَ لِلْعُبُورِ إِلَى مَرْضَاةِ اللهِ وَتَقْوَاهُ ، وَأَنْتَ أَحَقُّ بِهَا مِنْ غَيْرِكَ ، فَاحْذَرْ كُلَّ الْحَذَرِ أَنْ تَصُومَ عَمَّا أَحَلَّ اللهُ لَكَ فِي غَيْرِ رَمَضَانَ ؛ وَتُفْطِرَ عَلَى مَا حَرَّمَهُ عَلَيْكَ فِي رَمَضَانَ وَفِي غَيْرِهِ مِنَ الأَزْمَانِ .
قَالَ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا :
«إِذَا صُمْتَ فَلْيَصُمْ سَمْعُكَ وبَصَرُكَ وَلِسَانُكَ عَنِ الْكَذِبِ وَالْمَحَارِمِ وَدَعْ أَذَى الْخَادِمِ ، وَلْيَكُنْ عَلَيْكَ وَقَارٌ وَسَكِينَةٌ يَوْمَ صِيَامِكَ ، وَلاَ تَجْعَلْ يَوْمَ فِطْرِكَ وَصَوْمِكَ سَوَاءً» .
[رَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ]
فَتَعَرَّضْ لِنَفَحَاتِ رَبِّكَ فِي الأَيَّامِ الْعَظِيمَةِ وَاللَّيَالِي الْمُبَارَكَةِ ، وَحَاذِرْ مَا يُنَغِّصُ عَلَيْكَ صِيَامَكَ وَيَذْهَبُ بِحَسَنَاتِكَ فَلَعَلَّكَ لاَ تُدْرِكُ مِثْلَهَا فِي حَيَاتِكَ .