جريدة الديار
الخميس 2 مايو 2024 01:10 صـ 22 شوال 1445 هـ
بوابة الديار الإليكترونية | جريدة الديار
رئيس مجلس الإدارة أحمد عامررئيس التحريرسيد الضبع

نعم.. مصر نجحت بامتياز.. بقلم/ طــه خليفة

حديثي هنا ليس موجهاً للمؤيد الأعمى، ولا لغريمه المعارض الأعمى. كلاهما يصعب الحوار معه، ليس لمشكلة في المُحِاور، ولا في فكرة الحوار نفسها، إنما في الطبيعة الشخصية والنفسية والعقلية لهذا وذاك. وهما موجودان في كل مجتمع، وكل جماعة إنسانية على وجه الأرض، ومهما كانت الحداثة غالبة، والاستنارة ترفرف بظلالها على البشر، فإن صنفي التأييد والرفض الأعمى المطلق لن يختفيا، وأنا لا انتقص من قدرهما، ولا أرفضهما، إنما فقط أقول إن النقاش معهما مرهق، ودون فائدة مجزية.
الحديث المفيد يخاطب المؤيد المعتدل، ومثيله على الضفة الأخرى المعارض المعتدل، والاعتدال سمة الطبيعة، والتطرف والزوابع والعواصف، مظاهر مضادة للطبيعة، أو هى الاستثناء منها.

في هذا الإطار، فإنه لا مشكلة مع المؤيد المعتدل، أما المعارض المعتدل فإنه يَتّفهم ما أقوله فوراً بشأن نجاح مصر في تحقيق إنجاز سياسي مهم خلال العدوان الأخير الذي شنه الاحتلال ضد الشعب الفلسطيني.

نجحت مصر بامتياز في التوصل إلى وقف إطلاق النار في زمن معقول جداً، خلال 11 يوماً فقط من الاعتداءات الإسرائيلية، وفي العدوان السابق 2014، تم وقف النار بعد 50 يوماً، وبالتالي يكون 2021 عاماً جيداً للدبلوماسية المصرية، وفألاً حسناً لاستعادة مصر كامل لياقتها السياسية في فلسطين قضية العرب المركزية.


وللإنصاف فإن القاهرة لم تقلل يوماً من اهتمامها بالقضية، ولا تراجعت عن هذا الثابت الأصيل في سياساتها وأمنها القومي واستراتيجيتها المحورية في النطاق العربي والشرق أوسطي ، إنما ربما الانشغال بملفات داخلية وخارجية عديدة معقدة ومُلِحة كانت بحاجة لعملية ضبط وسيطرة وتصرف عاجل، وهو ما جعل الدور المصري يبدو غير ما يجب أن يكون عليه لدى بعض الغيورين على المكانة والقيمة والتاريخ والتضحيات الثمينة لها في الملف الفلسطيني والحقوق الوجودية المشروعة للشعب الشقيق أمام احتلال شرس قاتل لأفكار وخطط ومفاوضات السلام، ومدمر للحياة، ويصر على ابتلاع فلسطين، وتهويد القدس والمقدسات، وتثبيت كيانه كدولة يهودية نقية لكل يهود العالم مما لم يشهد مثله التاريخ الإنساني بوجود دولة دينية عنصرية لا تعترف بأصحاب الأديان والعقائد الأخرى كمكون أساسي قومي فيها.


منذ بدأت أزمة حي الشيخ جراح في القدس المحتلة ومحاولة حكومة نتنياهو طرد العائلات الفلسطينية المقيمة فيه حيث تمتد جذورها لقرون طويلة في أرضهم، وإحلال مستوطنين لا أصل ولا جذور لهم في هذا الحي وغيره بديلاً عنهم، ومصر أعلنت صراحة موقفها الرسمي الرافض لهذه السياسة العنصرية التمييزية التطهيرية عبر تصريحات وزير الخارجية وبيانات الوزارة. 
ولما تطورت الأحداث، واقتحمت قوات الاحتلال المسجد الأقصى، وارتكبت جرائم بحق المعتصمين فيه، كان الصوت المصري المندد قوياً، وحشد وراءه الصوت العربي والإسلامي والدول صاحبة السياسة المتوازنة في التعامل مع الصراع ورفض ضم إسرائيل تهويد القدس الشرقية أواعتبارها العاصمة الموحدة لها.
ولم تتأخر مصر عندما رشقت المقاومة كيان الاحتلال بدفعات من الصواريخ لتخفيف الضغط على أهل القدس، وتوجيه رسالة للاحتلال بأن المدينة خط أحمر نهائي وحاسم، وأن المساس بها سيفجر الجحيم، وكان رد الكيان هو العدوان المفرط في القوة مستهدفاً المنشآت المدنية والحكومية، ومقار وسائل الإعلام، وقتل الأطفال والنساء والعجائز، وشطب أسر كاملة من السجل المدني الفلسطيني.
ربما مع مرور أيام العدوان كان السؤال المعتاد: أين مصر؟، فلا أحد يسأل أين هذا البلد العربي أو ذاك، وهذا السؤال لا يجب أن يزعج بعض المصريين الذين يتخوفون من الزج ببلدهم في أعمال عسكرية خارجية.
 الحقيقة، أن السؤال ليس استنكارياً ضد مصر، أو نقد غيابها وتراخيها، إنما هو كاشف عن أن مصر هى البلد القادر على التدخل وسط النيران وإطفائها، وعمل كل ما يعجز الآخرون عن فعله، والتدخل هنا بمعناه السياسي والدبلوماسي والأمني مع الأطراف المتقاتلة، وبالفعل اكتشفنا من خلال الإعلام الأمريكي أن الدبلوماسية المصرية تعمل بكثافة وماراثونية بين الطرفين؛ الإسرائيلي والفلسطيني، للتهدئة ووقف إطلاق النار، والباعث للتحرك هو الدور المصري الطبيعي في الأزمات والصراعات داخل الأراضي المحتلة، وحماية الشقيق الفلسطيني من توحش قوة نووية تضرب بشكل أعمى.
الأمريكان، وعلى لسان الرئيس جوزيف بايدن، ثمنوا عالياً الدور المصري، ولولا هذا الدور النشط ما كانت اتصالات بايدن المتواصلة قد حققت المستهدف منها، وما كان وزير خارجيته زار المنطقة في ظل صمت السلاح، وللإنصاف فإن العامل المهم أيضاً في إجبار نتنياهو ومجلس الحرب الذي يرأسه في التجاوب سريعاً مع وقف إطلاق النار وأن يكون بشكل متبادل ومتوازن مع المقاومة الفلسطينية التي سطرت ملحمة حيث فاجأت الكيان بصواريخها المتطورة ومداها الواسع وقدرتها على جعل إسرائيل وسكانها يقبعون في الملاجئ وإصابة الحياة فيها بالشلل التام.
أنجزت مصر وقف إطلاق النار، ولم تكتفِ بذلك، بل تحركت سريعاً بين الطرفين لتثبيت الاتفاق، وجعله طويل الأمد، ومحاولة تهيئة الأجواء لفتح كوة في جدار مفاوضات السلام المغلق منذ سنوات، والهدف الآخر المهم دفع الفلسطينيين للوحدة ونبذ الانقسام الذي طال أكثر من اللازم، وهذا ما يحتاجونه بشدة خلال هذه المرحلة، ومناقشة ترتيبات إعادة إعمار غزة، وهذه الملفات تسير مع بعضها في خطوط متوازية.
ومما يُحسب للعقل السياسي المصري أنه لم يتجاهل حركة حماس، إنما يتعامل معها كقوة سياسية وشعبية، وفصيل مقاوم له دور مؤثر في الشأن الفلسطيي، فالحركة كانت في مقدمة الحضور خلال لقاءات الوفود الأمنية المصرية إلى غزة خلال الأيام الماضية، وكان لافتاً لقاء رئيس جهاز المخابرات العامة اللواء عباس كامل بقادة حماس في غزة، وعلى رأسهم يحيى السنوار رئيس مكتب الحركة في القطاع، ضمن زيارته إلى رام الله وتل أبيب مؤخراً، وهى رسالة ودية وواعية وذكية وواقعية بأن القاهرة، رغم بعض المرارات من حماس في مرحلة سابقة، تتعامل مع كل مكونات الشعب الفلسطيني بانفتاح ودون عُقد، وأنها لا تتجاهل توازنات القوى الفلسطينية على الأرض، وحماس مكون رئيسي، ويصعب تغييبه أو تهميشه، ثم جاءت أخيراً الدعوة الرئاسية المصرية المشكورة للفصائل والسلطة الفلسطينية للاجتماع في القاهرة لتأكيد أن مصر يستحيل أن تغادر دورها في القضية الفلسطينية الذي سجله لها التاريخ ورسمته لصالحها الجغرافيا منذ القِدم، وكذلك الأمر في كل قضية عربية وشرق أوسطية.
 مصر قاعدة الأساس للاستقرار عربياً وشرق أوسطياً، ولا يجادل في ذلك إلا مناكف، أو من هو مصاب بالعمى السياسي.