د. محمد سيد أحمد يكتب: المواطن بين ارتفاع الأسعار وغياب الانتماء!!
ليست المرة الأولى التي نتحدث فيها عن العلاقة بين توفير الاحتياجات الأساسية للمواطن وتحقيق الشعور بالرضا والانتماء، فكما يحتاج المواطن إلى توفير الأمن القومي بحماية حدود الوطن من الأعداء، فهو أيضا يحتاج من حكومته توفير الأمن القومي الاجتماعي عن طريق حماية الوطن من الداخل لكي تتوافر احتياجاته الأساسية من مأكل ومشرب وملبس ومسكن وتعليم وعلاج بكرامة بما يتوافق ودخله ودون شعوره بأي معاناة.
هنا يشعر المواطن بالرضا ويزداد الانتماء والولاء للوطن، إذا فالعلاقة بين توفير الاحتياجات الأساسية للمواطن وشعوره بالرضا والانتماء علاقة جدلية، فكلما توافرت الاحتياجات الأساسية بكرامة للغالبية العظمى من المواطنين كلما زاد الانتماء، واستقرت الأوضاع الداخلية وتحقق الأمن القومي الاجتماعي، والعكس صحيح كلما عجز المواطن عن توفير احتياجاته الأساسية كلما ضعف الانتماء وأصبح الأمن الاجتماعي في خطر.
وبما أن العلاقة بين المواطن والحكومة علاقة تعاقدية بحكم الدستور, فإن أحد المهام الرئيسية لعمل الحكومة هي توفير الاحتياجات الأساسية للمواطن بما يحفظ كرامته وفقا لدخله الذي يتحصل عليه من عمله, وبالطبع تنص غالبية الدساتير والاتفاقيات والمواثيق الدولية أن تساعد الحكومات مواطنيها وتمكنهم من الحصول على احتياجاتهم الأساسية من مأكل ومشرب وملبس ومسكن وتعليم وعلاج بما يتوافق ودخولهم, ويعد توافر هذه الاحتياجات الأساسية في أي مجتمع دليلاً على نجاح الحكومة في مهامها الأساسية, ويساعد ذلك على شعور المواطن بالرضا والانتماء, ويؤدي ذلك في النهاية لحفظ الأمن والسلم الداخلي بما يحقق الأمن القومي الاجتماعي.
ومما لا شك فيه أن عدم توافر الاحتياجات الأساسية للمواطنين كانت أحد أهم تداعيات الحراك الجماهيري في 25 يناير 2011 والتي سبقها ومنذ العام 2008 أكبر إضرابات فئوية في تاريخ مصر، وكانت هذه الإضرابات والتظاهرات الفئوية مؤشرا على عدم رضا قطاعات واسعة من المصريين عن السياسات الاقتصادية التي انتهجتها حكومات الحزب الوطني المتتالية، والتي جسدت في مجملها رؤية نظام مبارك المتحيزة للأغنياء على حساب الفقراء وهو ما أدى إلى زيادة رهيبة في عملية الفرز الاجتماعي حيث الأغنياء يزدادون غنى والفقراء يزدادون فقرا.
وفي هذا الإطار سجلت مؤشرات الفقر في مصر ووفقا للتقارير الدولية - تقرير التنمية البشرية الصادر عن الأمم المتحدة لعام 2010 - أكبر نسبة للفقر حيث بلغت نسبة من يعيشون تحت خط الفقر 41% أقل من 2 دولار في اليوم, هذا بخلاف ما يتراوح بين 23 و25 % يعيشون في حزام الفقر ومهددون بالسقوط تحت خط الفقر في أي وقت، ورغم ذلك لم يهتم مبارك ونظامه بالإضرابات والتظاهرات التي خرجت معترضة على تدهور مستويات معيشتهم وبدلا من تغيير السياسات وإحداث عدالة اجتماعية حقيقية في ظل إعلان نظام مبارك أن عملية النمو في الاقتصاد الوطني وصلت لأعلى معدلاتها 7% لكن عائد عملية النمو لم يكن يعود على الشعب المصري بل يذهب لجيوب فئة محدودة من رجال الأعمال المقربين من دائرة صنع القرار وفي هذا الإطار تم قمع الإضرابات والتظاهرات الفئوية، مما أدى في النهاية للطوفان الذي أطاح به وحكومته من سدة الحكم.
وعندما خرج الشعب المصري الغاضب في 25 يناير كان على وعي تام بمطالبه وما يريده من النظام وتجسدت هذه المطالب في شعار شديد الدقة وهو العيش والحرية والعدالة الاجتماعية, وهو ما يعني أن المعاناة الاقتصادية وغلاء الأسعار وعدم قدرة المواطنين على الوفاء بمتطلبات العيش الأساسية كانت في المقدمة, وبالطبع يعد غياب العدالة الاجتماعية في ظل مجتمع يمتلك ثروات حقيقية ظاهرة هي المطلب الذي يأتي ملتصقا بالمطلب الأول, ويأتي معهما المطلب الخاص بالحرية لأنهم حين كانوا يطالبون بحقهم الطبيعي في العيش والعدالة الاجتماعية كانوا يقابلون بالقمع.
وبعد الإطاحة بمبارك وحكومته ظن الفقراء والكادحين أن مطالبهم وأحلامهم قد أصبحت قيد التحقيق لكنهم ومنذ 11 فبراير 2011 يعيشون في كابوس كبير فقد أقسم مبارك ورجاله أن ينتقموا من الشعب المصري الذي ثار عليهم, وبالفعل عندما تتأمل ما حدث للمواطن المصري الفقير سوف تتأكد أنه تجسيد لأشد وأقسى أنواع الانتقام فقد تركته الحكومات المتتالية بعد 25 يناير فريسة سهلة ولقمة صائغة لآليات السوق نفس الآليات التي أفقرته وأذلته خلال الثلاثين عاما التي حكمها مبارك بل ويسبقها عدة سنوات في حكم السادات الذي أعلن عن انتهاجه لهذه السياسات بعد حرب أكتوبر 1973, وبعد 25 يناير تم إطلاق غول الأسعار ليلتهم الفقراء وكانت حجة الحكومة أننا في مرحلة انتقالية وعندما تستقر الأوضاع سوف يشعر الفقراء بتحسن في أحوال معيشتهم.
واستلمت جماعة الإخوان الإرهابية الحكم بوعد تحقيق أحلام الفقراء في توفير احتياجاتهم الأساسية لكنها سارت على نفس النهج وتركت المواطن فريسة لغول الأسعار ليلتهم المزيد من الفقراء, وأكدت الجماعة أنها مؤمنة بآليات السوق وكانت تحلم بأن يحل رجالها محل رجال مبارك المسيطرون على مقدرات الاقتصاد الوطني, لكن فشلت مساعيهم حيث لم يحتمل الفقراء الضغط الرهيب عليهم بواسطة غول الأسعار الذي يلتهم كل يوم الكثير منهم, فخرجوا ثائرين عليهم وأطاحوا بهم من سدة الحكم, ليعود رجال مبارك ولكن بثوب جديد حيث تم الدفع بصبيانهم من الصفوف الخلفية للحزب الوطني ولجنة السياسات ليتولوا الحقائب الوزارية ويطبقون نفس السياسات المفقرة للغالبية العظمى من شعب مصر.
ولا عجب عندما تجد الرئيس لا يعتمد على الحكومة في مواجهة المشكلات الرئيسية التي تواجه المواطن, سواء في إقامة المشروعات الكبرى مثل قناة السويس ومد الطرق والإسكان الاجتماعي وتطوير العشوائيات وأخيرا توفير السلع الغذائية بأسعار مقبولة, ولأن المخاطر التي تهدد حدود الوطن كبيرة للغاية والمتربصين بمصر كثيرين, ومهمة الأمن القومي الاجتماعي موكولة بالأساس للحكومة, والمواطنين الفقراء الغير قادرين على توفير احتياجاتهم الأساسية يشعرون بعدم الرضا عن أداء الحكومة وهو ما يضعف من انتمائهم ويهدد الأمن والسلم الاجتماعي, فإننا ندق ناقوس الخطر حتى تفيق الحكومة وتبتعد عن السياسات المفقرة للغالبية العظمى من شعب مصر, اللهم بلغت اللهم فاشهد.