عد تنازُلي .. بقلم: زهراء محمود
لازلت أستقل السُلم الكهربائي نزولا وصعودًا بتردد كأنها المرة الأولى، ولا أستطيع التوقف عن تخيل كل الأشياء السلبية التي"ربما" تحدث أثناء ذلك بسبب عدم اتزاني أو ترددي.
أعبُر الشوارع السريعة بذات التردد، وأحيانًا أستغل قطع مجموعة كبيرة للشارع وأعبره معهم، وفي أحيانٍ أُخرى حين أكون وحدي في قطعِه أفكر بأن كل ما عليَّ فعله هو الإنقضاض على أحدهم والتشبث بِيده كطفلة صغيرة حتى تتم المهمة التي تحبس أنفاسي يوميًا بنجاح أو على الأقل بأقل الخسائر.
ولكن من منا لا يفكر في ذلك كل يوم إن تشابهت المواقِف، أليس كذلك؟!
يدور في عقلي مكوك الأفكار بانتظام ودون كلل أو توقف، لا يتعب، لا يأخذ غفوة، ولا يعترضه انشغال غير انشغاله.
أتبعثر في سلسلة لا تنتهي من العَّد التنازلي، أدور في حلقتها منذ عشرة أشهر؛ عد تنازلي حتى أنتهي من حزم حقائبي، حتى أقول وداعًا لكل الأشخاص، لِكُل الأشياء التي غمرتني بالحُب، والمرح، والجنون، والوفاء، والفرح، وفي أحيان أُخرى كثيرة بالألم.
حتى أرحل إذًا، حتى أصل، حتى أعاود الكرَّة وأحاول الوصول مرة أُخرى بعد فشلي في محاولتي الأُولى، حتى أستطيع تخطي انكسار قلبي حينما رحلت عن والدي، لعله الشخص الوحيد الذي أحببته بصدق خالص كما لم أحب أحد ووالدتي التي واريتها تحت التراب كذلك، حتى أتجاوز دمعه الطاهر، حتى أتجاوز عيني شقيقتي المنتفختين من كثرة البكاء عند رحيلي، حتى أتجاوز احمرار وجهها المستدير الذي كان يشبه وجهها إلى حد كبير في تلك اللحظة حتى ظننته هو لوهلة، حتى أُفرغ حقائبي، حتى أستريح، حتى أحاول النهوض، حتى أحسم الأمر، حتى نلتقي، حتى نتفاهم، حتى يلتقي عنادنا في صفحة خالية من كل الأشياء إلا حُبنا، حتى نغفر، حتى نتجادل من جديد، حتى أهرع إلى ترتيب الأشياء التي أتيت من أجلها وجدولتها، حتى أبحث عن عمل، حتى أجد عمل آخر يناسبني، حتى عمل آخر وآخر حتى وجدت ما يستطيع أن يملأ تجاويف روحي بالرضا والمثابرة والجِد.
نسقط مجددًا؛ نظن أنها القاضية، القشة التي قسمت ظهر البعير. نقف، لا يتوقف العالم، ولكنها لطمة الصدمة التي تُشعرنا بِذلك؛ سُكون.
نفترق، قلبي المخلوع يكتب هنا وهناك، يبكي في ظل العتمة؛ تحت الغطاء، بدون الغِطاء، على الأرض، بجانب السرير؛ يتقلب و يغير وجوهه كما القمر خلال شهر واحد.
ننكسر؛ ثم يقرر كلانا أن يجبر الآخر كي يجبر نفسه، نعود إلى الحقائق. هُنا إذًا نقطة الإلتقاء التي لطالما جمعتنا، في اللقى لا المفارقة. نمشي نحو أخطائنا بأقدام عارية، يدوس المرء على آلامه في شقاء، ويعافر في طريق الحياة الواعر في شقاء آخر، حتى تقع من الدولاب ثم تعاود الركض نحوه؛ مجاراته حتى تتمكن من الصعود إليه مجددًا، قد تعاود الكرة مرات عديدة؛ أي السقوط ومن ثم الصعود ومن ثم سقوط آخر وهكذا.
حتى تتمكن من الصفح، معاودة الخوض في التجربة مرة بعدها مرة بنفس الإختيار وذات الرهان كأنك ما خسرته في كل الجولات السابقة.
حتى الإزدحام، حتى التعب، حتى أقصى درجة إحتمال، وأعلى درجة تخلي، حتى التلاطم والإرتباك، حتى الهزيمة.
هل كانت حرب؟ ظننتها عكس ذلك، ولكن عكس العكس قد اتضح .. الركض يا صاح؛ الركض مُرهق .. أسمع صوت محمود درويش يتسلل إلى أُذني في ساعات السحر، يريد أن يستريح أّردد وراءه وأنا كذلك يا درويش، أود أن أستريح .
أستمع إليه يتحدث عن الأرض؛ فأتشبث أكثر رغم كل الأشياء التي تُخبرني بأنه على عكس كل المرات، طريقة النجاة ها هُنا ليست بالمواجهة وإنما بالهرب ثم صوتها، يشق عتمة أيامي الحالكة، وقساوة وحدتي حينما تشتد علي، صوتها الذي يقترب مهدهدًا كي لا أستسلم، و كي لا أتهاوى. لا تخبرني ألا أسقط بل توصيني بالنهوض بعد كل سقوط في كل المرات التي أنجح فيها، أو أكون أفضل من المُتوقع، أقول لنفسي في السر والعلن بأنكِ وَ والِدي وراء كل ذلك؛ دعوات الأمهات لا تنتهي وان انتهوا .. درع حمايتهن لا يموت وإن ماتوا، أليس كذلك؟! فأتشبث بهذه الفكرة،ولا أطلق سراحها.
كلما أظلمَّتْ؛ أنرتِ عتمتي رغمًا عن أنف الدجى، كلما ضاقت؛ فُرجت بدعائك ومناجاتك الله في ليال طوال كنت فيها قطعة لحم لازالت تُنادي الحياة في رحمك.
في طريقي إلى مجمع التحرير الآن، تعمُني الفوضى، و يقتلني غيابك، يتحسس أنفي رائحة الياسمين المُنتشرة في الحافلة، تشبه تلك التي شممتها في أول زيارة لشاهد عليه اسمك، وتاريخ وفاتك.
كنت أراكِ في كل المرات التي أردتك بجانبي فيها، كنت أستحضر حضرتك، رأيت دموع فرحتك حينما رأيتني بالفستان الذي وقع عليه اختياري، رأيتك تؤنبينني عندما أُخطئ، رأيتك تسحبينني من يدي كي أقاوم وأنهض حين وقعت، رأيتُ يديك تُنادي ألا أتوقف عن لطم الماء وأنجو من الغرق، رأيتك تختارين معي كل الأشياء، صوتك لطالما قرر عني أي الأشياء أفضل أو أجمل لم أكن وحدي، كنتِ معي أردد هذه الجملة في كل لحظات الضعف والوهن، في لحظات الخيبة؛ لم أكن وحدي، كنتِ معي.
إلا أنه ولابد أن أعترف، بأن الأشياء أكبر مما تبدو عليه، وأُخرى أثقل مما تبدو كذلك وغيرها ناقصة مهما اكتملت؛ لأنها دونِك .. أحمل من الشتات ما أتفوق به على أهل الشتات، ما يمكن توزيعه على بلد بأكمله، مبعثره كما لا يمكن جمعي، أشعر بأنني أعدو خلف ما لا يمكنني اللحاق به ولكنني دائما ما أنجو، وكيف لا ؟! وأنتِ يقيني، و والِدي، قبلتي وحبيبي وِجهتي، وكل الأشياء الأُخرى التي أحببتها وأحبها قوتِي وزادي، والإخوة والأحبة والأماكن اليوم وغدًا ملاذي .
إلى كل الحكايات التي لازِلت أذكرها كأنك حكيتها للتو، إلى تحلقنا حولك كي نستمع ونستمتع، إلى الشاطر حسن بالتحديد، الذي رسمت له ألف صورة وصورة في مخيلتي وظللت أبحث عنه حتى وجدته، إلى الدفئ الذي يغمرني لحظة تيقني بأنني حظيت بأفضل والدين على الإطلاق، إلى القوة التي أستشعرها الآن وفي كل لحظات ضعفي لأنه وببساطة أنتِ مصدرها، إليك الآن واليوم وغدًا.. وسلام عليك يوم وّلدت، ويوم مُت ويوم تبعثين حية .. وحشتيني