جريدة الديار
الأحد 1 ديسمبر 2024 06:53 صـ 30 جمادى أول 1446 هـ
بوابة الديار الإليكترونية | جريدة الديار
رئيس مجلس الإدارة أحمد عامررئيس التحريرسيد الضبع

الشيخ أحمد علي تركي يكتب: مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ

نحن في أول هذا الشهر الكريم شهر رجب نريد أن نتعرف على بعض المعاني التي أكرمنا الله سبحانه وتعالى بها في هذه الأوقات .

فإن الله سبحانه وتعالى هو الذي وقَّت المواقيت وحدَّد الأمكنة وبين الأزمنة ، فضل بعض الأوقات على بعض، وخصَّ بعض الأمكنة بالفضل الذي لا يوجد في البعض .

ففضل على الشهور شهر رمضان، وبعده في الفضل رجب وشعبان، وفضل على الأيام يوم عرفة، وفضل على الليالي ليلة القدر، وفضل على الأمم أمة الإسلام، وفضل على الرسل رسولكم الكريم وكل ذلك يقول المولى فيه:

ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ

سورة الجمعة

لم اختص الله هذا الشهر بمزية دون ما سبقه من الشهور؟

إن هذا الشهر كانت العرب حتى قبل الإسلام تخصه بالاحترام والتجلة والإكرام، وكانوا يسمونه الشهر الحرام أي تحرم فيه المعاصي والذنوب والسيئات والآثام، حتى كان الرجل العادي والجاهلي إذا قابل قاتل أخيه في شهر رجب يلفت وجهه إلى الجهة الأخرى ولا ينظر إليه بسوء، احتراماً لحرمة هذا الشهر الكريم، وإذا قابل مَنْ أساء إليه بقولٍ أو فعلٍ أو عملٍ تغاضى عنه أو تركه، توقيراً واحتراماً لهذا الشهر الكريم.

وجاء الأسلام وزادها توقيراً وتعظيماً وذلك في قول الله سبحانه وتعالى:

إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَات وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ

سورة التوبة

فنهانا الله عن أن نظلم أنفسنا في هذه الأشهر الكريمة وهي الأشهر الحرم ، ومن ضمنها شهر رجب الأغر.

وهنا سؤال ملحّ:

وكيف يظلم الإنسان نفسه؟

إن ظلم الإنسان لنفسه هو أن يتجاوز الإنسان حدود الله:

وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ

سورة الطلاق

أي : أن الإنسان الذي يتعدى أي يتجاوز الحدود التي أعدَّها الملك المعبود للمعاملات وللأخلاق وللعبادات وللكمالات الإلهية، فقد عرض نفسه للظلم الكبير الذي لا ينفع فيه وزير ولا شفيع ولا نظير، لأن الأمر يتعلق بالملك الكبير سبحانه وتعالى.

فإن كان الإنسان يرخي لنفسه العنان لترتكب بعض الهفوات أو بعض الزلات، فإنه في هذا الشهر الكريم يجب أن يقبض بلجام نفسه بقوة الشريعة الإلهية، ويجعلها مسخرة لأحكام ربِّ البرية، فلا تنظر العين منها إلا لما أحلَّه الله، وإذا أرادت أن تلتفت إلى الحرام تقول لها:

النَّظْرَةُ سَهْمٌ مَسْمُومٌ مِنْ سِهَامِ إِبْلِيسَ، مَنْ تَرَكَهَا مِنْ مَخَافَةِ اللَّهِ، أَبْدَلَهَا اللَّهُ إِيمَانَاً يَجِدُ حَلاَوَتَهُ فِي قَلْبِهِ

روى في الترغيب والترهيب ومجمع الزوائد عن عبد الله بن مسعود

فاتقوا الله عباد الله وامتنعوا عن المعاصي في هذه الأيام المباركة، واستكثروا فيها من الطاعات، وحركوا ألسنتكم بذكر خالق الأرض والسموات .

ماذا عليك لو قلت وأنت في الطريق تمشي لا إله إلا الله ؟

ماذا عليك لو كررتها وأنت جالس في بيتك وأنت جالس في عملك وأنت راكب في مواصلتك ماذا تكلفك وبماذا تتعبك .

إنها دليل على توفيق الله للمؤمنين ففي الأثر المشهور قيل :

إذا أكرم الله عبدا ألهمه ذكره، وألزمه بابه وآنسه به .

حتى قال:

لو علم المغترون بالدنيا ما فاتهم من حظ المقربين، وتلذذ الذاكرين، وسرور المحبين لماتوا كمداً .

الزهد الكبير للبيهقي رواية عن ذى النون رضى الله عنه

ألهم لسانه ذكره ليكون كلامه أرباح، وليكون كلامه فلاح ونجاح، وليكون كلامه رضا لحضرة الكريم الفتاح، وليكون كلامه تكريماً له يوم القيامة.

وإذا أبغض الله عبداً جعل لسانه بذيئاً ينطق بالألفاظ البذيئة، ولا يتحرك إلا كالسوط يجلد هذا بكلامه، ويؤلم هذا بصراخه وسبابه، ويؤذي هذا بغيبته، ويفرق بين هذا وذاك بنميمته، إن هذا يكون على شاكلة إبليس لأنها أعمال إبليس.

فاتقوا الله واعلموا أن الجوارح تخاطب اللسان كل صباح فتقول:

إِذَا أَصْبَحَ ابْنُ آدَمَ فَإِنَّ الأَعْضَاءَ كُلَّهَا تُكَفِّرُ الِّلسَانَ فَتَقُولُ: اتَقِ الله فِينَا فَإِنَّمَا نَحْنُ بِكَ، فَإِنْ اسْتَقَمْتَ اسْتَقَمْنَا، وَإِنْ اعْوَجَجْتَ اعْوَجَجْنَا .

الترمذي وغيره عن أبر سعيد الخدري

في هذه الليلة ليعلمنا أن هذا الشهر هو شهر إكرام الله لعباده المؤمنين، والذي قال في حقه سيد المرسلين:

رَجَبٌ شَهْرُ اللَّهِ وَشَعْبَانُ شَهْرِي وَرَمَضَانُ شَهْرُ أُمَّتِي .

أبو الفتح بن أبي الفوارس من أماليه عن الحسن مرسلاً في كتاب جامع الأحاديث والفتح الكبير .

ومعنى شهر الله :

أي شهر العفو الإلهي، ومغفرة الله، وإحسان الله، وإكرام الله لعباد الله، لأن الله موصوف بهذه الصفات الكريمة، وهو في كل ليلة من ليالينا يتنزل في الثلث الأخير وينادي علينا ويتعجب من لجوئنا لغيره، وهو أقرب إلينا من حبل الوريد فيقول:

ألا مُسْتَغْفِرٌ فأغْفِرَ لَهُ، ألا مُسْتَرْزِقٌ فأرْزُقَهُ، ألا مُبْتَلًـى فـأُعافِـيَهُ، ألا سائِلٌ فأعْطِيَهُ، ألا كَذا ألا كذا، حَتَّـى يَطْلُعَ الفَجْرُ .

عن جبير بن مطعم عن أبيه وفي مسند الإمام أحمد عن أبي هريرة .