علي الجنابي يكتب: صَفَدُ الفَنَاءِ
لا حاجةَ للقارئِ في مَقالٍ يَسمِرُ بغُثاءٍ مِن قيلٍ مُجتَرِّ بتَأبيد. ولا خيرَ في مقالٍ لا يَعمُرُ المُقامَ بنبأٍ فريدٍ سَديد، أو يَضمُرُ خَبأً مِن فكرٍ حَميد. وعَسى مَقاليَ هاهُنا يَثْمُرَ مِمَّا ألزمتُ به مدادي من فَرْضٍ شَديد، ولعلَّهُ يَجْمُرُ بكلِمٍ من نفخاتٍ من خَطبٍ عَميد، وتِلكُمُ لعمري وعُمُر بني الأقلامِ ضالَّتي، وذاكَ عندي هوَ بيتُ القَصيد.
إعلَمْ يا ذا عِزٍ أن الحَيَواتَ مِنَحٌ كُبرى بِتَمجِيد، لا تُجارى حتّى بنعمةِ الدّينِ، ولا تُمارى بما حَمَلَت مِن زَكَواتٍ ومِن تَوحِيد، فلومَا مِنحَةُ الحَياةِ لَمَا كانَ للزَّكَواتِ مِن رَصِيد، ولا للتَّوحِيد من تَغريدٍ وتَخلِيد. لكنَّ مِنحَةَ الحَياةِ منحَةٌ مَغْلُولةٌ بصَفَدٍ مِن حَديدٍ غَيرِ حَميد. صَفَدٌ هَوَى بِمُتْعِها إلى وادٍ سَحيقٍ بَعيد، وإذ تَرى الصّفَدَ فِي أَعْنَاقِ كُلِّ كَبِدٍ رطبَةٍ مُقْمَحٌ وشَهيد، ومُلافِحاُ صَدرَ كُلِّ وَالدٍ وَوَليد، ومُنافِحاً مَا وَلَدَ لوالدٍ مِن حَفيد. وذاكَ هُوَ صَفَدُ الفَناءِ بتَنكيد، وإذ يُحاصِرُ الوَجدَ كُلَّ آنٍ بِتَهديد، وإذ يُناصِرُ هَدْمَ اللَّذاتِ بتَرديد، فلا سفرةً تَسري بتَمهيد، ولا وفرةً تغري بتمديد، ولا طَفرةً تَجري بتَشيِيد، ولا ظفرةً تَمري بِتَجديد، ولا زفرةً تَدري بتَخميد، إلّا وتَرى صَفَدَ المَوتِ مُسْتَتِراً وراءَها بِتَهديدٍ بتَجريد، فَضَاعَ مِنَ المِنحَةِ تَوَسُّمُ عَبَقِها الحَميد، ومِنَ النَّفسِ تَبَسُّمُ ألَقِها بتَنهيد، ورَاعَ كُلَّ نفسٍ صَفَدُها وما إحتَمَلَ مِن تَقييد، ومَاتَ فيها الأملُ وما إشتَمَلَ مِن رَغَدٍ ومن سَعدٍ بتَأبيد ، وباتَتِ المِنحةُ وكأنَّها مِحنَةٌ بتَنكيدٍ، والحَيُّ فيها كأنَّهُ فَزِعٌ شَريدٌ طَريد، وإذ تَراهُ فيها صائماً لا يَبغي إِسْتَجَابَةً لشِرعَتِها ولن يُريد، وسائماً لا يصغي لإِسْتِطَابَةٍ مِن جُرعَتِها عَلَّها تُفيد، وقائماً يُعَقِّبُ في طَوِيَّات سِرِّ الصَّفَدِ العَتيد، وهَائماً يُنَقِّبُ عن تفكيكِ اللّغزِ العَنيد، كي يَحظى بِعَيشٍ سَعيد، وبلا صَفَدٍ مَريد، ويَرضى بجَيشٍ من بنينَ و مالٍ رَغيد، وإذ تراهُ قد أَطَّرَ صَفَحاتِ جَرائدِهِ بتفاؤلٍ بَليدٍ من قَصيد ؛ " البَحثُ عنِ السّعادةِ" بإصرارٍ وَتَرديد، وعَطَّرَ نَفحاتِ مَوائدِهِ بتساؤلٍ عَنيدٍ حَولَ الثَّريد؛ " أنّى لسَّعادةٍ تكونُ موقُوتةً بأجلٍ مؤَكَّدٍ أكِيد! ومُصَفَّدةً بصَفَدٍ عُتُلٍّ قَعيدٍ وعَقيد"!
كيفَ لسَعادةٍ أن تَتَلاشى بقَرصةٍ مِن بَقٍّ في جَسَدٍ أو أزيد، ولا تَتَحاشى رَصَّةً في شَقٍّ في لَحْدٍ لها يَستَعيد؟
ما تلكَ بسعادةٍ! وكَذَبَ السُّعداءُ بتَقليد! وأفٍّ من سَذاجةٍ في قيلِهم بتَسهيد! فما هذهِ المِنحةُ إلّا مِحنةٌ بِكَبَدٍ وبتَقييد، ولا سَعْدَ فيها، ولا فيها رَغدٌ إلّا بِفَكِّ الأصفادِ بتَنديد.
وما فَكُّ الأصفادِ بكائنٍ مَهمَا بَلَغَ أبنُ آدمَ مِن تَرديدٍ ومِن تَجديد، وتَراهُ قد رَكَنَ الى فَرَحٍ بَئيسٍ، ومَرَحٍ تَعيسٍ ظَنَّهُ سَعادةً بتَحشيد، وإنّما الفَرَحُ والسّعادةُ نِدّان بِتَوطيد، فالفَرحُ سَرابٌ ودُنو بقِيعان، والسّعادةُ سَحابٌ وسُموّ في العَنَان، فكَلَّما غارَ في سَرابِ القيعانِ، توارى عن سَحابِ العَنَانِ.
الفَرحُ هَباءٌ جَسَديٌّ آنيّ وبِكَبَدٍ مُتَرَجرِجٍ في المَكان، والسّعادةُ بَهاءٌ حِسيّ أبَدِيٌّ غيرٌ مُصَفَّدٍ ولا مُتَدَرِجٌ في الزَّمان. الفرحُ جانِحٌ للقَطْفِ ويَستَمنِي القَطفَ بالبَنان، السَّعادةُ مانحٌ للعَطْفِ وتَستَغني العَطفَ بالحَنان.
الفَرحُ والسّعادةُ ضِدّانِ لا يَتَحادّانِ ولا يَتَحدّانِ. ألا وإنّ للسَّعادةِ فَلَقَةً، بأمرِ ربِّ الرّوحِ مُنفَلِقة. ألا وإنّها تَضيقُ في بريقِ جاهٍ مُخِلٍّ مُقَلَّدِ، وتَقصُرُ في سحيقِ مَالٍ مُذلٍ مُلحِدِ. ألا وإنّها تَستَفيقُ وتَبصُرُ في مَشرقٍ إذا رَجَى، في مَغربٍ إذا سَجَى، وفي نَبَضاتِ غيمةٍ تَتَمَلَّأ بثوبِ أحرامِها مُلَبِّيَةً بتَلَبيد. في نبضاتِ شَمسٍ بضِياء، في لمضاتِ قَمرٍ على إستحياء، وفي وَمَضَاتِ نجومٍ تَتَلألأ مُتهجِّدةٍ بتَمجيد. في بِحارٍ زَرقاءَ، في قِفارِ صِماءَ، وفي نظراتِ ثمارٍ تَتَعَالى، وزهورٍ تَتَأَلَّى بعطرِها فَوّاحَةً بصَعيد. في نَضرةِ نَخلٍ ذي جَريدٍ، في نظرةِ جبلٍ ذي جَليد، وفي حَضرة حَبلٍ سرِّيٍّ لوَليد. في حِافلةٍ من نَحلٍ، في قافلةٍ من نَملٍ، وفي نَظَراتِ فَرخةٍ لرَحَماتِ أمِّها مُفتَقِدَةً ومُتَفَقِّدة بتَغريد. في تَحايلٍ لطاووس، في تمايلٍ لجاموس، وفي تَغَنُّجِاتِ لَبوةٍ بينَ ذَراعي بعلِها مُداعِبَةً بتودّدٍ وتَجسيد. في صَمَمٍ لحَصىً غَافيةٍ، في لَمَمٍ لهَوَامٍ خافيةٍ، وفي تَمَوجاتِ تلالٍ لموجِ البحرِ مُحاكِيَةً بتَقَليد. في حبةِ من زيتونٍ نضيدٍ، في قبّةٍ لحلزونٍ سعيدٍ، وفي رَقَصاتِ نَبتةٍ كأنَّها أينَعت بينَ الصخرِ مُتَقَصِدَةً بتَعميد، فَغَشِيتهم جَمالاً وعلى نواصيهمُ تَتَمايلُ بتَسنيد. في سُلَحفاةٍ في البَحرِ تَسبحُ، وعلى بَطنِها للبرِّ تَكبحُ، تَارةً تَخسرُ، تارةً تَربحُ، ولرزقِها مُطمئِنَّةً بلا لهاثٍ ولا تَشديد.
تلكمُ هي مَفاتِحُ الصَّفَدِ المُرعِبِ، ولمِنحَةِ الحَميدِ يُبيد. وأرانيَ في مِنحَتِهِ أرمِي خُطايَ هَونَاً، حامِداً قَاصَّاً وقَاصِدا لربِّ المِنحَةِ الرَّشيد.