ربى ريحاني تكتب.. من الكسّارة إلى الوزارة
رأيتُ في ذلك الطفل اليتيم قائدًا للغد، فاستعداده لإعالة أسرته والاعتناء بها لم يثنِه عن الخوض في أشكال متنوِّعة من العمل. فالكسّارة التي كان يمقُتُ العمل فيها كانت أشدَّها قسوة، تلتها وظيفته كمعلِّم في الجنوب الأردنيِّ.
رأيتُ شعلة الذكاء الخارقة بين السطور وعطف الأب على طلّابه المساكين وإنفاقه عليهم رغم شُحِّ الدخل وصعوبة الحياة، وخاصة في قرى الشوبك التي أطلق عليها "سيبيرية" لشدَّة بردها القارس، حتى أنني لدِقَّة وصفه لها وضعتُها على قائمة الأماكن التي أرغب في زيارتها لأوَّل مرة في حياتي.
تنقَّل الكاتب في حياته وعاش بين بدو الجنوب والوسط والشمال، فامتزجَت شخصيَّته بالنَّخوة والرجولة العربية والكرم الأردنيِّ. رأيتُه في كلِّ مكان لتعرُّجه وتنقُّله بين مهمّات ومناصب عِدَّة. جال الأردنَّ والعالم، وعندما أطلق عليه ملكنا الرّاحل الحسين لقبَ "النَّشميّ" كان وصفًا دقيقًا لمحمَّد داودية.
ثلاثة أمور رأيتُها بصورة جليَّة بين سطور هذه الرِّواية:
1. صداقاته، فلقد حظيَ داودية بصداقة النُّخبة والمفكِّرين والمثقَّفين أبناء جيله، وخاصَّة في المفرق ولبنان وفلسطين، مثل: ميشيل النمري، وغسّان كنفاني، وناجي العلي، وغيرهم.
2. احترامه الشديد للمرأة والذي بدأ بأمِّه وأخته خديجة ومَن زامَلَه ورافقَه في العمل، في زمن كانت المرأة الأردنيَّة فيه مهمَّشَة وضعيفة وفرصُها قليلة في العمل.
3. إيمانه، وولاؤه وحبُّه للوطن والملك.
كانت هوايته ووسيلة الترفيه الرَّئيسة لديه بعد كرة القدم هي المطالعة والقراءة، وخاصَّة في الفترة التي عمل فيها كبائع للصُّحف والمجلّات. فكان يقرأ ليقدِّم موجز الأنباء وملخَّص الأخبار لا سيَّما الفنّانين الَّذين استهوَتِ الحسناواتُ متابعة أخبارهم.
لقد تمتَّع داودية بذكاءٍ حادٍّ جعله يبرَع في التعامل مع كلِّ ظروف الحياة، يعني كما يقولون: "بتاع كلّه وبفهم بكلّه"، صِدقًا لا مجامَلة.
سبقَت كرامته أيَّ أمر آخر، فلم يسمح لأحد بإهانته وكان منفتِحًا على الدِّيانتَين المسيحيَّة والإسلاميَّة، ونرى ذلك من خلال أصدقائه الَّذين لم يفرِّق بينهم. إضافة إلى انخراطه في العمل السياسيِّ والصَّحفيِّ، وخاصَّة فيما يتعلَّق بتغطية أخبار الزعماء السياسيّين ومنهم المعارضون.
وأهمُّ ما في الأمر زاويته الخاصَّة في صحيفة الأخبار "عرض حال"، حيث إنه قد فُصل من العمل لبعض من الوقت بسبب كتاباته السياسيَّة. وفي عهد حكومة الكباريتي غطّى أخبار الحركات السياسيَّة المعارِضة وعمل صائغًا مجانيًّا لبيانات مجلس النواب الثّاني عشر في منتصف التسعينيّات والذي كان عضوًا فيه. فرأيتُ في هذه الحقبة من حياته صفات القائد الحكيم الَّذي يختار كلماته بحكمة بما يتوافق مع الدُّستور، وخاصَّة في مرحلة الفصل بين السُّلطتَين التَّشريعيَّة والتَّنفيذيَّة.
ألخِّص شخصيَّة محمد داودية بأن ألقِّبَه بـ “الإنسان والسياسيُّ المحنَّكُ". فكيف لا وقد تقلَّد ثلاث حقائب وزاريَّة وحمل ثلاث حقائب دبلوماسيَّة عندما كان سفيرًا لثلاث دول في آنٍ واحد!
اعترف الكاتب بكلِّ تواضع بعدم خبرته في التعامل مع أبنائه كأب ومع زوجته كزوج، بسبب موت أبيه الذي فارق الحياة وعمره سنتان. ورغم زواج أمِّه بعمِّه جعفر الذي كان بمنزلة أب له، إلّا أنَّه لم يعرف كيف يتعامَل مع أسرته في بداية حياته الزَّوجية. وقِلَّة هم مَن يشاركون هذه المعلومات الخاصَّة جدًّا بهم، الأمر الذي زاد إعجابي به وبأسلوب كتابته القريب من القلب والفهم.
قرأت الكتابَ عدا آخر خمسين صفحة؛ لأنني لا أريد أن تفوتني هذه الفرصة في الكتابة عنه مع تزامن إطلاقه، فهو كتاب تُسهِب في قراءته بجلسة واحدة.
إنَّ كتاب من "الكسّارة إلى الوزارة" هو توثيق لحِقبة تاريخيَّة واجتماعيَّة لم تُذكَر من قبل وتستحقُّ النظر إليها كعمل أدبيٍّ سياسيٍّ بتميُّز.
مبارَك إطلاق مثل هذا الكتاب الذي هو مصدر مهمٌّ في تاريخ وطننا الحبيب الأردنِّ.