غَسيلُ الذّات
هلّا ياصاحُ اعتَصَرتَ خَلجاتِ الصَّرفِ، واختصرتَ عَبَراتِ الذَّرفِ، واقتصرتَ نَظَراتِ الطَرفِ، في مَقامةٍ تَكشِفُ سُبُلَ "غَسيلِ الذات" وبوَجِيزِ حَرف وخُلاصةِ كَشف.
قَدْ سَأَلَ صاحبي عَنْ عَظِيمٍ يلوذُ منهُ فراراً مَن كانَ لعَمَدِ الفكرِ نحّات! وبِرِقَّةٍ وتَحَنُّنٍ أبْدَيتُ لهُ مَعاذِيري وما مَلَكتُ من تَبريراتٍ، وبِدقَّةٍ وتَفَنُّنٍ أسدَيتُ لهُ مَحاذيري من سبرِ فضاءِ الذات، وأهدَيتُ لهُ موانعَ ما في الأمرِ من شبهِ إستحالةٍ ومن متاهات. فلِكلِّ ذاتٍ تَدبُّ على ظهرها شؤونٌ وحكاياتٌ، وآهاتٌ في عوالمَ مُتقلّبات.
تَركتُ سائلي وما سَأل، وحاسوبي وما نقلَ من دَرْدَشَات، كي أرميَ بثباتٍ بضعاً من خطوات، في نُزهةِ صباحٍ راجلةٍ، صُحبة صغيرتي فيما يُسمى تَنطّعاً "مُتنزهات"، وماهي بمُتنزهات، إنّما عملٌ غيرُ صالحٍ من أعشابٍ وأدغالِ وتُرهاتٌ، لكنّا نَدعُوها تزلَفاً وتملّقاً مُتنزهات. وإذ كنّا الإثنينِ نَتخطّى، إذ بِجَرادةٍ عملاقةٍ حُبلى بجَرادات، تَقفِزُ فُجأةً من تحتِ قَدميّ لتَحُطَّ على شُجيراتِ سياجِ المتنزه صَافّات.
قلتُ لصغيرتي؛ " لِنَقبضنَّ عليها قَبضةً واحدةً لا قَبضات، ولِنَحملنَّها الى الدّارِ كسلاحٍ مُحرّمٍ دخولهُ ومن الممنوعات، فنُرعبَ بها مَن فيها -نرعِبُ بالجرادةِ مَن في الدّار من الأخوةِ الأعداءِ والأخواتِ؟ ثُمَّ نُعيدُها كرةً أخرى هاهُنا بهونٍ وبرَحمات. ولكن..
ما إن مَرَقَت يَدِيَ أغصانَ الشُّجيرات، حتّى فوجئتُ بقَصرٍ من صُوفٍ ذي جلبةٍ وصَخَب، وبتنديدٍ من أربعةِ أفراخٍ ذواتِ زَغَب.
أفراخُ طيرٍ يُدعى " أبو الزَّعَر" بِلَهجةِ مَن ينتميَ لأهلِ العراقِ في الحَسَب، و(الزَّعَارَّةُ) بتَشديدِ الرّاء لُغةً تعني؛ شراسةَ الخُلُق وسوءَ الأدب، والزُّعْرُورُ كالعُصفُورِ السّيّءِ الخُلُقِ فاقدِ الذنب، فنقول؛ "رجلٌ زَعِرٌ " فيهِ زَعَارَّةٌ وفضاضةٌ فما أبقى على رَحِمٍ ولا صحب.
تَغريدُ أبي الزَّعرِ تغريدٌ خافتٌ لا شَجَنَ فيه ولا طَرَب، وحَجمُهُ يعدلُ مِعشارَ عصفورٍ لو إنّا نزعنا عنهُ ريشَهُ ومنقارَهُ ذا اللّجاجةِ والشَّغَب. هو طيرٌ لا وقارَ له ولا تَوقِيرَ بينَ قبائلِ الطيرِ ولا حَسَب.
لعلّ أصلَهُ حَشرةٌ تَحالفَتْ مع قبيلةِ الطَّير كي تَحظى بتشريفٍ وجاهٍ ونَسَب، أو طَمَعاً منهُ برتبةٍ حتّى لو كانَتِ الرُّتبةُ في أدنى الرُّتَب، كما هو دَيدَنُ بعضَ بني جلدتنا من أهلِ الرّياءِ والتعجرُفِ والخوارِ والعَجَب).
كانتِ الأفراخُ مكنونةً في عُشٍّ خَفيٍّ بتَمويهٍ ذكيٍّ مُدهشٍ عَجَب!.
التَّمويهُ كانَ مُذهلاً يا سادة، التمويهُ كانَ مُعجِزاً ولِلُّبِّ سَلَب! إنَّ أمرَ التمويهِ والغشِّ في قاموسِ أبي الزَّعر لأمرٌ عَجَب!، فَمَن عَلَّمَ مِعشارَ عُصفورٍ أن يَنتقيَ مادةَ بناءٍ لعُشّهِ من صُوفٍ وليسَ من عيدانِ حَطَب، كي يُوهِمَ العَدوَّ إن إقتَرب، بأن العُشَّ كومةُ عِهْنٍ مَنْفُوشٍ بينَ أغصانٍ، إثرَ ريحٍ عاصفٍ جَدَب! بل مَن أوحى لهُ أن يُصَمِّمَ بَوابةَ قصرِهِ فيُصّيِّرها مَخفيةً وعلى الجَنب، وليست في أعلاهُ، فيَضربُ بذلكَ صَفحاً بعُرفِ هندسةِ البنيانِ في أمَمِ الطّيرِ والإنسانِ وكلّ مَنطقٍ وسَبَب؟
وإن هيَ إلا هُنياتٌ حتى أَتَيَا والدا ذَوي الصَّخَبِ والشَّغَبِ (أبو زَعرٍ وأمُّ زَعرٍ)، فَسَلَقُوني بالسِنةٍ حِدادٍ وبِوابلٍ من تَحذيرٍ وَجَب، وشتائمٍ من فحشِ قولٍ تَبَب، وإنّيَ هنا لأنْأَى بِبَناني وأنْهى لِسانيَ أن يُعلِنا عَمّا قيلَ من شَتمٍ ثَلَب، إلا بَعضَاً مِمّا يَصلحُ للنشرِ بين جَماهيرِ الشّعَب، لكيلا أزيدَ فوقَ هَمِّ وتَعَبِ الجَماهيرِ مَزيداً من غَمٍّ وتَعَب. قالا لي؛" أُغرُبْ يا نَديمَ الشّؤمِ عَديمَ الجِناحِ قَضِيمَ المِنقارِ وصَريمَ الذَنَب! أُغربْ يا ذا وَجهٍ مُتَجَهِّمٍ ولِحاجِبيهِ قَطَب، صُبحُهُ فَزَعٌ، ظهرُهُ جَزَعٌ، مساؤهُ وَجَعٌ وعَطَب، وأغلَبُ ظَنّيَ أنَّ لَيلُهُ يُقضَى بينَ (هَجَعٍ)وخَمرٍ وصَخَب، كي يَخدعَ ذاتَهُ فيَظُنَّ أنَّهُ غَسَلَ ما نالَ مِنها مِن غَمٍّ مُكتَسَب، وما هكذا تُغسَلُ الذَّاتِ وتُطَهَّرُ النُّفوسِ بِلَهوٍ مُضطَرَب! أَوَيَظُنُّ أنَّهُ بِنغمةِ وَتَرٍ وهزٍّ وكأسٍ وطَرَبِ أنَّ الغَمَّ قد إندَحرَ وذَهَب!
إرحَلْ وحَاجِبَيْكَ المتخاصمينِ وكلٌّ قَطَب، ودَعْ صِغارنا في أمانٍ تغشاهمُ رحمةِ الوَهّابِ وما يَهَب، دَعْهُم وإيّاكَ أن تَمُسَّهمُ بسُوءٍ أو بخُيثٍ او بِشَغَب، وغَادرْ الى حيث قُدسِكُمُ المُغتصَب، وما في أكنافِها مِن جِهادٍ واجِبٍ وَجَب، ولَعُمُري ما هَبَّ شَاربٌ مِن شَواربِكم مناكِفاً عنها وِ وَثَب".
واعيباهُ من إمِّ زَعَر! ولقَد وَلّيتُ مُسرعاً تحتَ تَهديدِ أبي زَعَر وما أَنَذرَ وخَطَب. تَهديدٌ كادَ أن يَهِزَّ مَساكنَ حَيِّنا وحتَّى التُرَب، ووَيلٌ لِحَيِّنا مِن زَعْرَةِ أبي الزَّعر إذا غَضب!
ابتَعدتُ مُلتَحِفاً عَصَبَ التَدَبّرٍ، ومُؤتَلِفاً قَصَبَ التَفكُّرِ ومُلتَهِباً بخيالٍ وبِرَهَب:
"إنَّ سرَّ الوجودِ في أمرَيْن؛ مَبنىً ومَعنىً مُحتَسَب".
فأمّا المَبنىً فكامِنٌ في كَينُونةِ بناءِ العُشِّ من قِشِّ، وقالَ أبنُ آدمَ قَولَ زورٍ وغِشٍّ:
"قد بَنى القِشُّ العُشَّ فلمَ الدينُ وعَلامَ العَجَب؟، وما مِن إلهٍ للخَلْقِ برَحمَتهِ تَغَشَّى، وإنّما خَلْقٌ هَامَ على ظَهرِها وطَشَّ.
وأمّا المَعنى فضامِنٌ في بَينُونةِ عطاءِ وهَديِ الإلهِ لمُهَندَسِ العُشِّ. ولئن تمَرَّدَ أبنُ آدمَ وعَبَرَ وأنْكر مُوجِدَ كَينونةِ الأنامِ والمَبنى، فهَلّا تجَرَّدَ أبنُ آدمَ وسَبَرَ فشَكَرَ بَينونةِ الإلهامِ والمَعنى؟، لعَلَّ أبا الزّعَرِ -يا سَائلي - قد أعَانَنا في كشفِ طرفٍ من سؤلِكَ فيما دَنَى، فأبانَ قَبساً من سُبُلِ "غسيلِ الذاتِ" فيما بَنَى فَجَنَى، فسُبحانَ الَّذِي أَعْطَىٰ أبا الزَّعَرِ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى.
وَيْ! ما بالُكَ -ياقارئي- استَأنَستَ "غسيلَ الذاتِ" وآنستَ رحلةَ"أبي الزَّعر"، ونَسيتَ أمرَ جَرادَتِنا الحُبلى، أهيَ نَجَتْ أم كانَ ختامُها إبادةً وفَنَى؟