أمراء لكن شرفاء ... صفحات من تاريخ مصر المجهول
في تاريخ الثورة العرابية صفحة مجهولة تتعلق بموقف أمراء الأسرة العلوية من هذه الثورة ،خاصة عندما تطورت الأحداث إلي ذروة الصدام المباشر بين عرابي باشا من جهة، وتوفيق خديوي مصر وعميد العائلة العلوية من جهة أخري ، وكان علي أفراد الأسرة أن يحددوا موقفهم من المعسكرين ، وهو الأختيار الصعب.
من الحقائق المعروفة ان الخديوي توفيق لم يكن يتمته باحترام أو تأييد أقاربه لأسباب كثيرة ، بعضها يرجع الي تكوينه الخلقي الذي كان ابرز مميزاته الجهل والغباء والتردد والغدر، وبعضها الاخر يتعلق بالصراعات داخل السرة نفسها، وهي صراعات كان يقودها أمراء أقوياء يرون أنفسهم أحق بالحكم من توفيق لولا اللعبة التي دبرها والده إسماعيل لتغيير نظام وراثة العرش، وبمقتضاها أصبح الحكم من نصيب أكبر أبناء الوالي بعد ان كان من حق أكبرأفرادالأسرة.
وكانت تلك غلطة إسماعيل القاتلة، ولعله هو نفسه كان أول ضحاياها، فلم يكن ابنه توفيق وهو ولي العهد ببعيد عن مؤامرة عزل ابيه. وكان أقوي المناوئين الأمير عبد الحليم أصغر أولاد محمد علي الذي نحاه إسماعيل ونفاه إلي الآستانة ، ومن هناك كان يحيك الدسائس لاستعادة عرشه السليب، وكان هناك أيضا الأمير مصطفي فاضل، شفيق إسماعيل ، الذي أبعد عن العرش ليحل محله توفيق الغبي الجهول.
ولكن هذه الصراعات العائلية، تضاءلت أمام الحدث الاكبر ، حين تعرضت مصر للغزو الإنجليزي ، وانهالت قنابل الاسطول علي الاسكندرية في يوليو 1882، وكشف توفيق عن وجهه القبيح بانحيازه العلني الي جيش الاحتلال ، وبينما كان الجيش المصري يصنع المستحيل لصد الهجوم ، اجتمع قادة الأمة من كل الفئات والطبقات والأديان ، وأصدروا قرارا تاريخيا بالوقوف خلف الجيش المصري بقيادة عرابي، وعدم الاعتراف بالأوامر التي يصدرها توفيق الخائن.
وفي أثناء معركة كفر الدوار، ظهرت حاجة الجيش المصري الي المال والعتاد والمؤن، بعد ان استولي السير كالفن المراقب المالي الانجليزي علي أموال الخزانة المصرية ، وحملها في الاسطول الانجليزي المرابط في الاسكندرية. وهنا ظهرت معادن المصريين الاصيلة ، فجادوا بما لديهم من ننفس ومال وغلال وعتاد وخيول ودواب، ولم تتخلف أميرات الأسرة العلويةعن المساهمة في هذا الجواجب المقدس، وفي طليعتهم الأميرة خوشيار أم الحديوي أسماعيل ، التي تبرعت بجميع خيول عربتها ، واقتدي بها بقية افراد العائلة، علي النحو الذي يرويه عرابي في مذكراته.
علي الجانب المثير في موقف أميرات الأسرة العلوية، إنما يتجلي رائعا بعد فشل الثورة وانفضاض الذباب من حولها، ففي هذا الوقت العصيب، الذي تنكر فيه الانتهازيون للثورة وتبرءاو منها ، ظلت الأميرات علي مبدئهن المؤيد للثورة وقائدها ، ولم يمنعهن الخوف من بطش الخديوي من الوقوف الي جانب عرابي في محنته ، وبقين معه حتي اللحظة التي غادر فيها مصر الي منفاه السحيق.
وبينما كان عرابي يستقل القطار من قصر النيل الي السويس ، انهالت عليه هداياهن الثمينة اعترافا بمجده وبطولته ، فبعثت واحدة بمعطف ثمين ، وارسلت اخري مصحفا كبيرا وثالثة سجادة صلاة ... الخ.
ويكشف مستر برودلي محامي عرابي الانجليزي عن هذه الصفحة المضيئة فيقول، إن عرابي وجد سيدات مصر أكبر عون في ثورته ، فقد ساعدنه منذ اللحظات الأولي مساعدات لها قيمتها، وظللن يقدمن هذه المساعدة ، حتي بعد ان فقد أخر أمل في النصر ، بل أن أميرات الأسرة الخديوية باستثناء ام الخديوي وزوجته كن يعطفن عطفا كبيرا علي عرابي باشا، وألفن عدة جمعيات مهمتها مساعدة ومواساة الجرحي في موقعة كفر الدوار ، والاستعداد لمواجهة مصاعب القتال القادمة الي حد الاشتراك في الصفوف ذاتها ، وتلقي برودلي من ارملة الوالي سعيد باشا خطابا تشكره فيه علي دفاعه عن عرابي.
وكشف برودلي ، في مذكراته التي ترجمها محمود خليل المحامي ، عن لقاء مثير تم بينه وبين احدي الأميرات ،ولم يفصح عن اسمها خوفا عليها من انتقام الخديوي, قالت الأميرة: كانت كل واحدة منا نحن الاميرات تعطف علي عرابي منذ البداية، لاننا نعرف انه يرغب اصلا في تخقيق اماني المصريين جميعهم، وكنا جميعا ننظر الي عرابي نظرة الرجل المدافع عن البلاد ضد الانجليز الذين التجأ اليهم الخديوي.
وكتبت احدي الاميرات لعرابي خطابا غريبا تطلب منه الزواج لانه منقذ مصر، وقد عوقبت الاميرة التي طلبت الزواج من عرابي شر عقاب، بالرغم من ان والدتها اعترفت بأنها كتبت الخطاب ووقعته باسم ابنتها، ولكن الاميرة خوشيار عرفت كيف تؤدب الشخص الذي وشي بسر الحطاب الي الخديوي فضربته بمقعد علي راسه.
واخيرا صدرت الينا الاوامر بالذهاب الي القصر وكنا نبكي من الخوف والزعر. وبعد ان وبختنا والدة الخديوي قالت لنا ان الانجليز سوف يسلمون عرابي الي الخديوي ليقتله شر قتلة، وعندما علمنا ان حياة عرابي مهددة ساد الحزن في دوائر القصر كأن احدا من الاسرة قد مات.