العملات الإفريقية أمام خيارات صعبة بين التضخم والانتعاش الهش
ما زال الدولار ينظر اليه عادة بوصفه ملاذا آمنا في أوقات التقلب الاقتصادي، وقرارات الفيدرالي الأمريكي بشأن الفائدة عززت قوة الدولار بشكل كبير، تلك القوة المتزايدة للعملة الأمريكية أدت إلى تتراجع قيمة العملات الإفريقية لدول جنوب الصحراء الكبرى بنحو 8 في المائة منذ كانون الثاني (يناير) عام 2022، وبطبيعة الحال فإن تلك النسبة تختلف من بلد إلى آخر، وربما كان الأسوأ هو ما حدث لقيمة السيدي الغاني والليون السيراليوني اللذين تراجعا بأكثر من 45 في المائة أمام الدولار،هذا إلى جانب تباطؤ النمو الاقتصادي، وقد ترك ذلك صانعي القرار الاقتصادي أمام خيارات صعبة، إذ بات عليهم الموازنة بين إبقاء التضخم تحت السيطرة من جانب وتعزيز الانتعاش الذي لا يزال هشا من جانب آخر.
كما يحمل عديد من الخبراء الأفارقة ارتفاع قيمة الدولار مسؤولية تراجع قيمة العملات الوطنية الإفريقية، فالموقف المتشدد الذي اتخذه مجلس الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي بزيادة أسعار الفائدة بشكل متواصل وأكثر قوة من البنوك المركزية في الاقتصادات الكبرى الأخرى، مسؤول من وجهة نظرهم عن التدهور الراهن في قيمة عملات الدول الإفريقية جنوب الصحراء.
أسباب الانخفاض في قيمة عملات الدول الإفريقية
يقول مايكل فليتر الخبير الاستثماري إن "الانخفاض في قيمة عملات الدول الإفريقية جنوب الصحراء لم ينجم عن أسباب داخلية بالأساس وإنما لعبت العوامل الخارجية الدور الأكبر وراء التراجع، فقد انخفضت الرغبة في المخاطرة في الأسواق العالمية، وارتفاع أسعار الفائدة في الولايات المتحدة وبريطانيا، دفع المستثمرين بعيدا عن الاستثمار في إفريقيا جنوب الصحراء، مفضلين سندات الخزانة الأمريكية بوصفها أكثر أمانا والأعلى في الدفع" ،وبالفعل فإن أرباح العملات الأجنبية في عديد من دول إفريقيا قد تضررت نتيجة انخفاض الطلب على صادرات المنطقة بسبب التباطؤ الاقتصادي في الاقتصادات الرئيسة، كما أن ارتفاع أسعار النفط والغذاء نتيجة الحرب الروسية الأوكرانية أدى إلى ارتفاع تكاليف الاستيراد خاصة العام الماضي، وقد أدى العجز الضخم في ميزانية الدول الإفريقية إلى تفاقم آثار الصدمات الخارجية من خلال زيادة الطلب على العملات الأجنبية، وخلال عام 2022 كان لدى نحو نصف دول إفريقيا جنوب الصحراء عجزا في الميزانيات العامة تجاوز 5 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي، ما فرض ضغوطا على أسعار الصرف.
الدول الإفريقية تفتقر إلى قاعدة تصدير قوية
كما تقول الدكتورة بيستي جون الخبيرة في الشؤون الإفريقية وأستاذة التنمية الاقتصادية في جامعة لندن، أن "الدول الإفريقية تفتقر إلى قاعدة تصدير قوية خاصة للسلع الأساسية، لذلك اقتصاداتها دائما في وضع مكشوف، العام الماضي على سبيل المثال انخفض الشلن الكيني بنسبة 6 في المائة، وسط انتعاش اقتصادي ضعيف في فترة ما بعد كوفيد والجفاف المستمر، وقطاع البستنة الكيني الذي تعتمد عليه البلاد لتوليد النقد الأجنبي في حالة من الركود" ،وتستدرك قائلة " تقلب سعر الصرف في دولة مثل كينيا أدى إلى ضربة اقتصادية مزدوجة، فقد ارتفعت تكلفة الوقود محليا بسبب ارتفاع الأسعار عالميا وانخفاض قيمة الشلن الكيني، ودولة مثل نيجيريا كان من المتوقع أن يكون العام الماضي عام ازدهار بسبب ارتفاع أسعار النفط، وأن تتحسن قيمة العملة المحلية، لكن ما حدث كان عكس ذلك، إذ تراجع إنتاج النفط نتيجة أعوام من ضعف الاستثمار وتفشي السرقات والتكلفة الهائلة لدعم الواردات من المنتجات البترولية المكررة، ما يكشف أن العوامل الداخلية لعبت دورا أساسا في تدهور قيمة عملات الدول الإفريقية جنوب الصحراء".
بريق أمل الصورة لا تبدو تشاؤمية
مع هذا يشير البعض إلى أن الصورة لا تبدو تشاؤمية للغاية بالنسبة إلى العملات الإفريقية، فهناك نماذج جيدة أبرزها الكواتشا الزامبي التي أحرزت العام الماضي ارتفاعا 6 في المائة في مواجهة الدولار الأمريكي، وربما يرجع ذلك إلى الشفافية السياسية التي مثلت عاملا حيويا لإقناع صندوق النقد الدولي بصرف قرض بقيمة 1.3 مليار دولار.
بصرف النظر عن الجدل الدائر حول دور العوامل الخارجية والداخلية في تراجع قيمة عملات معظم الدول الإفريقية جنوب الصحراء، فإنه في ظل استمرار الصدمات الخارجية، وصعوبة إصلاح العوامل الداخلية في الأمد القصير، فإن الدول التي لا تكون فيها أسعار الصرف مرتبطة بشكل ثابت بعملة دولية ما مثل الدولار أو اليورو فلن يكون لديها من خيار سوى السماح بتعديل سعر الصرف وهو تعبير يستخدم عادة لخفض قيمة العملة الوطنية رسميا مقابل الدولار، وتشديد السياسية النقدية لمكافحة التضخم.