”الإعلام” مهنة لكشف الحقائق أم محنة لتضليل المجتمع .. بقلم الدكتورعبد الولي الشميري
تعارف الناس على تسمية مهنة (الإعلام) وليس اشخاصه بالسلطة الرابعة، بعد سلطة الشعب التشريعية، وسلطة الدولة السياسية، وبعد سلطة القضاء، ولقد منح الإعلام الواعي هذه التسمية الشرفية حينما كان الإعلام يمتهن كشف الحقائق، ويحترف تصحيح الوقائع في أذهان الشعب، ويقوم بكشف أستار التضليل الّذي يمارسه الابتزازيون ضد الشعب، ويتولى تعرية الاستبداد الّذي يميل إلى ممارسته بعض الحكام؛ ولفضح أي استغلال للمنصب أو انحراف عن سيادة القانون، فسلطة الإعلام كانت في منظومة دول الغرب الديموقراطي الحديث تعني مساعدة الرقابة المجتمعية، والتفتيش التطوعي على القائمين على الوظيفة العامة لخدمة الشعب، والوصول بعيون الإعلاميين وعدساتهم إلى البُقَع المعتمة حيث لا تصل عيون المسئولين، ومن أجل ذلك أطلق عرفيا على هذه المهنة بالسلطة الخامسة، ولم تكن مهنة الإعلام ومهمته بالقضية السهلة البسيطة، بل تحتاج لتجرد وشجاعة نادرة.
إنّ الشجاعة في القلوب كثيرة ووجدت شجعان العقول قليــــلا
إنّ الّذي خلق الحقيقة عَلقما لم يخل من أهل الحقيقة جيلا
ثم تطورت مهمة وسائل الإعلام بوسائله الكثيرة ولكنها سرعان ما انحرف بعضها وانحدر سلبا؛ حيث تملك وسائلها ومنابرها أشخاص، وشركات تجارية وأنظمة استبدادية، ودعوات هادمة، فحولوها إلى أبواق للترويج والتسويق، ولمغالطة الشعوب، وتضليل الرأي العام، وللتأثير المباشر على أغلبية الأوساط الشعبية خاصة الشريحة السطحية وأنصاف المثقفين، إما لغرض الابتزاز السياسي، أو لكسب تأييد الرأي العام للإستيلاء على السلطات الأخرى من خلال التأثير التوعوي على قناعات الناخبين، وغالبا ما تكون لغرض المنفعة، أو القذف بالمستقبل إلى براكين الفناء، خدمة لأصحاب النفوذ والمال، أو لتنفيذ أجندة الأجنبي ولو كان ندّاً للوطن، وانتقلت قداسة سلطة الإعلام عبر وسائله الكثيرة إلى خلق انطباعات خاطئة غير حقيقية لدى العامة، وكثيرا ما رأيناها تتكالب لبناء صورة ذهنية شوهاء أمام الجمهور لعظيم من عظماء الأمة، وكثيرا ما نراها لا تمت للحقيقة بصلة، وكما قلنا سلفا عن زعيم نازي قوله: (إكذب ثم إكذب ثم أكذب، حتى يصدقك الناس). وبقدر ما سمى الله مهنة الإعلام للناس بتسمية حميدة في معظم الأحوال ومنها دور المؤذنين، (ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله وعمل صالحا وقال إنني من المسلمين) وكذلك كان للعرب قبل الإسلام نداء يلفت انتباههم، يعني التحذير وطلب النجدة والنصرة، وقد استخدمه رسول الله صل الله عليه وسلم في بداية سني الدعوة بمكة، حين صعد على جبل الصفا، ونادى بأعلى صوته: (واصباحاه) أي اسمعوا وهلموا. وكذلك هدد الله سبحانه وتعالى الذين يمارسون التضليل الإعلامي وإشاعة التهم والأكاذيب، وسماهم بفريق مرضى القلوب، وبالمرجفين. فقال تعالى: (لئن لم ينته المنافقون والذين في قلوبهم مرض والمرجفون في المدينة لنغرينك بهم ثم لا يجاورونك فيها إلّا قليلا ملعونين أينما ثقفوا).....الآية.
وإذا كانت مدرسة المرجفين في العصر الذهبي للإسلام نشأت في مجتمع المدينة المنورة وفي ظل تنزيل الوحي ومع ذلك كانت الشائعات الكاذبة من أنشط الجبهات الّتي تولى الله سبحانه التشنيع بفعلها في الآية السابقة، فكيف إذاً بطابور المرجفين في العصر الحديث في زمن الفضاء المفتوح، والتكنولوجيا الحديثة، والبث إلى الناس من وراء كوكب الأرض، فلا يترك نقطة أو زاوية من زوايا المعمورة مضيئة أو معتمة إلّا وصلها بكل لغات أهل الأرض.
وفكرة الإعلام الحديث نشأت بداية في شكل كراسات ورقية يكتبها الخطاطون في نهاية العصر الأموي في إمارة بلاد الأندلس، حيث تلقفت وصول الفارس الهارب إليها من سيوف العباسيين عبدالرحمن بن معاوية بن هشام بن عبدالملك الأموي المعروف بـ(عبدالرحمن الداخل صقر قريش) القادم من بلاد المشرق العربي حيث استولى العباسيون على دولة بني أمية، وقتلوا كل أصولهم وفروعهم، ثم نبشوا حتى قبور الخلفاء الأمويين، في دمشق وغيرها من بلاد الشام، وقال بعض المؤرخين بأنهم أحرقوا الجثث، ولذلك تعاطف أهل الأندلس مع صقر قريش، واستقبلوه بحفاوة، وكتبوا الصحف الكثيرة بكل ماجرى ليستفزوا بها مشاعر العرب والبربر في إمارات الأندلس تمهيدا لإعلان فصلها عن دولة الخلفاء العباسيين في الشرق العربي، ومبايعة الأمير عبدالرحمن الداخل الأموي، وقد نشروا الصحف في المساجد والأسواق، وهناك اعتمدت مهنة النشر الورقي وسموا ناشرها وبائعها بالصحفي، واستخدموها كلما دعت الحاجة وتلاقحت بها أفكار الدول، وتطورت تدريجيا، وقد بدأت مهنة الإعلام ككل الأعمال النبيلة على أيدي العظماء، ثم تلقفتها فيما بعد أياد النفعيين، حتى انحدر مستوى ذلك العمل، كما قالوا عن الثورات التي تنهض بها الأمم غير الواعية: (يخطط لها العظماء، وينفذها المغامرون، ويجني ثمارها المرتزقة)، وكذلك كانت مهنة الإعلام حتى تحولت من أيد النبلاء تدريجياً حتى اختطفتها أيادٍ أخرى فأساءت توجيهها، ووظفتها لغرض الوصول إلى أموال طائلة من أيادٍ مشبوهة، كما دنّس ساحة هذه المهنة منتسبون إليها، واشتهروا بالاصطفاف في أوكار الجاسوسية أحيانا، واستطاع دعاة النعرات المعمقين للعداوات والبغضاء بين الشعوب والمجتمعات أن ينفخوا أوداج المشاهدين البسطاء من الغيظ دون علم بالحقيقة، وهنا ينبغي أن نتساءل عن الدور الّذي تحرص أن تلعبه اليوم كافة وسائل الإعلام المقروءة والمرئية والمسموعة، سواء منها الحكومية أو الشعبية بعد أن أصبحت مملوكة لكل من يمتلك أموالاً فقط، ومن ثم يصبح لصاحب المال الحق في أن يوجه المشاهدين والسامعين من عامة الشعب كما يحلو له، فكثيراً ما نرى وسائل إعلامية مشهورة، كبيرة الإمكانيات، عالية الكفاءات ترتعي في جروح جسدها المتعفن، دون وازع من دين ولا زاجر من ضمير، فنرى معظمهم يشهدون زورا، ويحلفون فجورا، ويحرفون الكلم عن مواضعه، ولا يدركون أنها شهادة وإليهم يوجه الله تحذيره (ستكتب شهادتهم ويسألون) ومن وراء تلك الوسائل نشبت حروب طاحنة داخل البيت العربي، بين أعضاء الأسرة الواحدة، وفجرت براكين من الحقد وراكمت من البغضاء ما زاد الأمة وهناً على وهن وضعفاً على ضعف، فلا تدل على خير، ولا تحذر من شر:
ومن يكن الغراب له دليلا يمر به على جيف الكلابِ
ونرى اليوم وسائل أخرى كبيرة الموارد صغيرة الأهداف تتفانى لتسويق شخصيات كاسدة فاشلة تكللها بتيجان العظمة وتزكيها بالكفاءة بينما تكون أخرى أكثر حمقاً وجشعا من: (أشعب). وتعتمد بإصرار على أسلوب التدليس وتضليل الرأي العام. كما سمعنا ذات مرة خبراً إعلامياً مثيراً ينقل عن إنقلاب عسكري في العاصمة، وحين استدعي للتحقيق عن نشر خبر كاذب قال لقد رأيت بعيني عسكريا من المشاة انقلب في حفرة وهو في طريقه إلى المخبز.
ولا يعني هذا أنّ جميع وسائل الإعلام فاسدة أو أنّ كلها مأجورة، فهناك الصحيح والفاسد، والسليم والمعتل، ومن أطرف ما قرأت عن هذا الموضوع ما كتبه إمام الحرم المكي فضيلة الدكتور سعود الشريم، عن قناة سماها العبرية، ونظم عنها نظماً عتابياً ساخراً، وتعالت عتاباته حتى وصلت حد التعريض ومن ذلك قوله:
عبــــــــــــــــرية واخجلتـــــاه وإنهـــــــا محمية من بعض أهـــــــــــل الدارِ
عـــــــبريــــــة آلت على رُبّانهــــــا أن يحجب المكشوفُ بالأستار
عبـريـــــــــةٌ مملوءةٌ حقــــــدا وقد لفـــــّــت على عـــــــــــــــوراتهـــــا بإزار
عبرية دست على أوساطنا لتخوننا في الدين والأفكـــــــــــــار
فتقمصت ثوب النزاهة للورى وتلاعبت في الرصد والأخبارِ
وللإعلام المستنير رسالة فاضلة بلا شك، وعلى كاهله مسئولية كبرى في تضميد جراحات الأوطان، وصون الأجيال من التفكك والإنحراف. ومما أساء لرسالة الإعلام الفاضلة، ومسئوليته المتكاملة، تسخير الأنظمة والدول المعاقة فكرياً، العاجزة عن تقديم نفسها من خلال منجزاتها الحقيقية لشعوبها، فاعتمدت شراء وسائل إعلامية عالية القدرة، وجندت لها أرتالاً من المتملقين والمرتزقة الذين تولوا وجهتهم حيث اتجهت أطماعهم، فيسبحون بحمد الفرعون، ويلعنون من يخرج عنه، ويحرفون الكلم عن مواضعه، فيسخرون الأدلة والتأريخ لمن ملأ أيديهم بالعطاء ولو كان النمرود بن كنعان، أو (عبهلة العنسي)، ولا وسيلة جاذبة لشد أنظار المشاهدين سوى أجساد النساء، واستعراض إغرائهن ومفاتهن، وقد مرت بنا سنوات من تسليم آذان الناس وأسماعهم لطائفة من المتسولين الذين نسميهم مسئولين وإعلاميين، يتملقون لمن والاهم بما ليس فيه، ويشنون الغارات التشنيعية على من عاداه ولو كان نبياً مرسلا، وقد استثار أولئك الذين قزموا رسالة الإعلام - قريحة الشاعر الحجازي الكبير عبدالرحمن عشماوي، الّذي دلف باللائمة على كل وزير للإعلام ولكن من خلال وزير لبلده فخاطبه:
يا وزير الإعلام طال الطريقُ والمحيط الّذي تخوض عميـــــــــــــــــــق
وجـــه إعلامنا غريـب علينـــــــــــــا ولدينـــــــــــا البيــــــــــــان والتحقـيــــــــــــــــــــــقُ
يـا وزيـر الإعلام ضجت بيوتٌ شــــــــب فيها من الضيــــاع حريـــقُ
بيـــن إعلامنـــــــا وبـيـن هدانـــــــــــــــــا يا وزيـــــــــر الإعـــــــلام بعدٌ سحيـق
وهذا موضوع يمثل العمود الفقري للبناء النفسي والفكري والروحي للأوطان والأجيال، فلا بد أن نتناوله في حلقاتنا القادمة إن سمح الأجل بإذن الله.