جريدة الديار
الأحد 22 ديسمبر 2024 06:26 مـ 21 جمادى آخر 1446 هـ
بوابة الديار الإليكترونية | جريدة الديار
رئيس مجلس الإدارة أحمد عامررئيس التحريرسيد الضبع

العيد الوطني الفرنسي وإشكالية العلاقة مع أميركا

الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون
الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون

يسود الاستقطاب السياسي المجتمع الفرنسي مع تصويت غالبيته لصالح أقصى اليمين واليسار في الانتخابات التشريعية.

الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون تمكن من الفوز بولاية ثانية لكن مع فارق أقل من ذاك الذي حققه سنة 2017 في مواجهة مارين لوبن. وحصدت الأخيرة عدد مقاعد في الجمعية الوطنية يوازي عشرة أضعاف ما حققته منذ خمسة أعوام. في الوقت نفسه، لا تقل المشاكل الخارجية أهمية عن التحولات الداخلية.

فشلت دبلوماسية ماكرون في إنهاء الحرب على أوكرانيا، وتتخوّف دول أوروبا الشرقية من دفع فرنسا للأوكرانيين كي يقبلوا بتسوية صعبة مع الروس لإنهاء الحرب في أسرع وقت ممكن. نفى ماكرون ذلك خلال آخر زيارة أجراها لكييف برفقة رئيس الوزراء الإيطالي ماريو دراجي والمستشار الألماني أولاف شولتس. لكنّ أجواء من التشكيك لا تزال سائدة مع استمرار تقدّم روسيا في منطقة دونباس قد يقترب ماكرون من لحظة لقد قلت لكم إنّ التسوية كانت أفضل.

يحتفل ماكرون بالعيد الوطني في ظل علاقات متأرجحة مع الولايات المتحدة،ساهم الرئيس الأميركي جو بايدن في نشر عدم اليقين مع الانسحاب الفوضوي من أفغانستان وصفقة الغواصات النووية مع أستراليا والتي أطاحت صفقة أخرى كانت فرنسا قد وقّعتها مع كانبيرا منذ سنوات قليلة. إلى الآن، يبدو أنّ الطرفين على طريق تخطي تلك المطبات. لكن ثمة مشكلة فرنسية أخرى مع الولايات المتحدة: تحقيق الاستقلالية الذاتية عنها في مسائل الأمن القومي.

طالب ماكرون في ولايته الأولى بتأسيس جيش أوروبي لكنّ عرضه قوبل بالرفض من الحلفاء بسبب ما رأوا فيه محاولة لاستبدال المظلة الأمنية الأميركية بأخرى فرنسية. ربما تلقت الاستقلالية الأوروبية (برعاية فرنسية) عن أميركا ضربة إضافية مع توجه السويد وفنلندا للانضمام إلى حلف شمال الأطلسي وهو تأكيد إضافيّ على أنّ الضمانة العسكرية تكمن في واشنطن لا في أوروبا.

و سيتضمّن العيد الوطني تكريماً لدول الجناح الشرقي لـ"الناتو" والقوات المنتشرة فيها. وسارعت فرنسا إلى إرسال المئات من جنودها إلى رومانيا وإستونيا إضافة إلى الأسلحة كدليل على اهتمامها بتحصين الجبهة الشرقية في مواجهة التهديدات. مع ذلك، يبدو أنّ هنالك اعتقاداً في باريس بصعوبة الاتكال دوماً على الولايات المتحدة لمواجهة تحديات تتعلق بالقارة الأوروبية. بهذا المعنى، وبشكل متفاوت، لم تحمل تجربتا بايدن وترامب الكثير من علامات التفاؤل بشأن مستقبل التعاون الوثيق بين ضفتي الأطلسي. على الرغم من ذلك، ليست محاولات تأكيد الخصوصية الفرنسية في مواجهة النفوذالأميركي وليدة الأمس أو موقفاً ماكرونياً مستجداً. يمكن العودة إلى الرئيس الفرنسي الأسبق شارل ديغول حين سحب فرنسا من القيادة العسكرية لـ"الناتو".

مؤسس معهد "جيوبوليتيكال فيوتشرز" جورج فريدمان استفاض أكثر في شرح العلاقات الإشكالية بين فرنسا والأميركيين. حين أقدم ديغول على الانسحاب من الهيكلية العسكرية المدمجة لـ"الناتو" سنة 1966، شعر الأميركيون بالخيانة بعدما قاتلت أميركا مرتين لحماية فرنسا. سادت تساؤلات عما إذا كانت الأخيرة تعترف بأخوّتها مع الولايات المتحدة أو على الأقل بديونها. لفت فريدمان إلى مناسبة أخرى تظهر أنّ فرنسا وثقت بالأميركيين.

خلال أزمة صواريخ كوبا، أرسلت واشنطن بعثة إلى فرنسا لمحاولة إقناعها بالوقوف إلى جانبها وقد حملت معها صوراً استطلاعية لدعم موقفها. رفض ديغول النظر إليها لأنّ فرنسا تقف إلى جانب حليفتها من دون حاجة للصور. لكن بعد انتهاء الاجتماع، طلب ديجول رؤية الصور. ليس من أجل التأكد من صدقية الأميركيين بل لرؤية نوعية الصور الأميركية.

ويسرد فريدمان كيف أنّ فرنسا لم تكن تريد أن تصبح كبريطانيا دولة تابعة تتحرك عسكرياً كلما طُلب منها ذلك. رأى ديجول أنّ أميركا دولة يافعة ومتهورة ولا يريد لبلاده أن تصبح مثلها. حين أخبره فرنسيّ بأنّ بلاده غير مدينة للأميركيين بحرب العراق ردّ عليه فريدمان بأنّ فرنسا تدين للأميركيين بمئة حرب. "كنا كلانا على حق. لقد كانوا مدينين لنا بمئة حرب، لكن ليس كل حرب نختارها.

هذه الرغبة بتأكيد استقلالية الشخصية الفرنسية تظهر عند منعطفات كثيرة. إخراج فرنسا من القيادة العسكرية لـ"الناتو" لم يكن أقدم حدث يجسّد هذه الرغبة. لقد اعترض ديجول بشدة على ذهاب الأميركيين والبريطانيين إلى بوتسدام تموز (يوليو) 1945 من دون دعوة الفرنسيين. ربما كان ذلك بداية تضاؤل الثقة الفرنسية بالأميركيين. اليوم، تلوح حرب أوكرانيا كواحد من أشد المنعطفات حساسية في تاريخ العلاقات الثنائية.

لا يعني ذلك بالضرورة تدهور العلاقات مجدداً بين باريس وواشنطن إلى ما كانت عليه السنة الماضية. طالما أنّ الناتو قادر على مواصلة دعم الأوكرانيين خلال الأشهر القليلة المقبلة، سيظلّ الاختلاف في مقاربة النزاع الأوكراني هامشياً. لكن مع اقتراب الشتاء، وحاجة أوروبا الماسة إلى الطاقة التي يرجّح ارتفاع أسعارها أكثر في حال واصل الأوروبيون فرض عقوبات على روسيا، قد تعيد فرنسا دفع أوكرانيا باتّجاه التسوية. وستنضم إليها على الأرجح قوى أخرى في الدول الغربية.

وتبنّت واشنطن سياسة وسطى بين التشدّد والدفع نحو التسوية. ركّز بايدن على وضع أوكرانيا في أفضل موقع على طاولة التفاوض متجنباً الحديث عن دحر القوات الروسية إلى ما قبل 24 فبراير. هل يقترب بايدن من موقف ماكرون مع اقتراب حلول الشتاء وازدياد التدهور في شعبيته بسبب غلاء أسعار الطاقة؟