بسبب نقص الوقود .. الغاز قد يصبح المحرك الرئيسى لحرب بادرة جديدة
سيظل الغاز الطبيعي المنافس الأول في قطاع الطاقة الذي سيشكل "وقود التغيير" بل سيقود إلى جغرافيا سياسية جديدة
وينذر الوضع العالمي الحالي بنكسات اقتصادية مقبلة في ظل تراكم الأزمات بقطاع الطاقة، ويبدو أن الغاز الذي بات حالياً أهم سلعة في العالم قد يكون المحرك الرئيس لحرب بادرة جديدة، وسط موجات كبرى للتضخم العالمي، إذ أدى ذلك إلى قفزة في أسعار السلع بلغت ذروتها، حتى وفقاً لمعايير الأسواق المضطربة اليوم، ما يقرب من 700 في المئة في أوروبا منذ بداية العام الماضي، ما دفع اقتصاد القارة إلى حافة الركود.
وبحسب تقرير متخصص من وكالة "بلومبيرغ"، فإن العالم قد يغادر حقبة مزدهرة من الرخاء إلى "صراع ساخن بين القوى العظمى"، اشتدت حدته لدرجة أن خطط مكافحة تغيّر المناخ في عواصم الغرب أصبحت خارج الاهتمام.
يقول المتخصص الاقتصادي محمد رمضان، "من الصعب أن يكون الغاز محرك حرب باردة على المدى الطويل، لكن غالباً سيظل مؤثراً في المدى القصير أو المدى المتوسط، لأن هناك ردود فعل تم الإعلان عنها، ستجري خلال الأعوام المقبلة، وهي اللجوء إلى الطاقة النووية بشكل كبير جداً، وسيجري تعويض النقص عن الإمدادات الروسية بما يتم استقباله عبر الموانئ من قطر والولايات المتحدة ودول أخرى".
ويضيف رمضان أن "تعويض إمدادات الغاز سيجري عبر سياستين تم الإعلان عنهما، الأولى: إعادة التوجه إلى الطاقة النووية، ما من شأنه أن يقلل الاعتماد على الغاز الروسي على المدى الطويل، والثاني: تجهيز الموانئ لاستقبال شحنات الغاز المسال، التي تأتي من دول مختلفة".
وأشار إلى أن هذه الحلول المطروحة لا يمكن استخدامها على المدى القصير أو حتى المدى المتوسط، بالتالي لن يكون هناك ضغط للغاز على المدى الطويل بحسب ما تم الإعلان عنه، موضحاً أن مع نهاية 2030 تقريباً، سيتم الاستغناء عن الغاز الروسي تماماً، لكن ستكون هناك مشكلة على المدى القصير، بخاصة في فصل الشتاء المقبل.
التقرير المتخصص لوكالة "بلومبيرغ" يرى أن المعادلة الجديدة التي قلبت الموازين ستظل في الغاز الطبيعي، المنافس الأول في قطاع الطاقة، الذي سيشكل "وقود التغيير"، بل سيقود إلى جغرافيا سياسية جديدة. وبحسب محللين في قطاع الطاقة، فإن الحرب في أوكرانيا هي التي حفزت "أزمة الغاز" إلى مستوى غير مسبوق بعد أزمة الإمدادات، في وقت تعمل روسيا على "مناورات سياسية صادمة" لقطع تزويد أوروبا بحاجتها من الغاز، ليتحول ذلك إلى تدافع عالمي نحو تأمين الشحنات المطلوبة استعداداً لفصل الشتاء المقبل في نصف الكرة الشمالي.
وتؤكد ألمانيا أن نقص الغاز قد يؤدي إلى انهيار شبيه بأزمة 2008 عندما واجه العالم سقوط بنوك كبرى مثل "بنك ليمان براذرز"، وما تلاها من أزمات ضربت العالم في وقتها. وإلى ذلك، فإن الأزمة مقبلة وستواجه القوة الاقتصادية في أوروبا احتمالية غير مسبوقة لنفاد الطاقة من الشركات والمستهلكين.
ومن المقرر إغلاق خط أنابيب "نورد ستريم" الرئيس، الذي ينقل الغاز الروسي إلى ألمانيا، في 11 يوليو، لمدة عشرة أيام للصيانة، وهناك مخاوف متزايدة من أن موسكو قد لا تعيد فتحه.
في الصراع، يبحث قادة مجموعة السبع الصناعية الكبرى عن طرق لكبح عائدات روسيا من الغاز والمساعدة في تمويل أوكرانيا ودعم استثمارات الغاز الطبيعي المسال الجديدة، في وقت يؤكد محللون أن العالم بات الآن يبحث عن الغاز، ومنه سيصبح وقوداً للاقتصادات الحديثة، لدوره الأساس في التنوع وتوفير طاقة نظيفة للجميع.
ويبدو أن الحل السريع لهذه المشكلة لن يكون سهلاً، فعدد من الدول تحوّل بالفعل إلى الغاز الطبيعي كجزء من الاتجاه إلى الطاقة النظيفة، بحيث تسعى هذه الدول إلى التخلص التدريجي من استخدام الوقود الأحفوري مثل الفحم، وكذا التخلي في بعض الحالات عن الطاقة النووية.
من جهته، قال العضو المنتدب لشركة "كلير فيو إينيرجي بارتنرز"، وهي شركة أبحاث مقرها واشنطن، كيفين بوك، "هذه هي السبعينيات بالنسبة إلى الغاز الطبيعي. والآن يفكر العالم في الغاز كما كان يعتقد في السابق حيال النفط، وأصبح الدور الأساس الذي يلعبه الغاز في الاقتصادات الحديثة والحاجة إلى إمداد آمن ومتنوع، واضحَين للغاية".
اعتاد الغاز الطبيعي أن يكون سلعة نائمة يتم تداولها في أسواق إقليمية مجزأة. والآن، على الرغم من أن العولمة تبدو وكأنها في تراجع عبر جزء كبير من الاقتصاد العالمي، فإن تجارة الغاز تسير في الاتجاه المعاكس، إنها تتجه نحو العولمة بسرعة، ولكن ربما ليس بالسرعة الكافية.
وكانت هناك 44 دولة مستوردة للغاز الطبيعي المسال، العام الماضي، أي ضعف ما كان عليه الأمر قبل عقد من الزمن، لكن نقل الوقود حول الكوكب أصعب بكثير من نقل النفط، إذ يجب تسييله في أماكن مثل مصنع "فريبورت" في تكساس.
في الوقت ذاته، بدأت أسعار الغاز في أوروبا وآسيا الصعود بأكثر من 60 في المئة خلال أسابيع، وكانت السوق تظهر بالفعل إشارات إلى ضيق شديد في كميات الإمداد.
ويشير متخصصون إلى أن الحرب في أوكرانيا وجائحة كورونا والتضخم العالمي ستؤثر بشكل مباشر في استقرار الأسواق المحلية، خصوصاً السلع الغذائية كالقمح، كما سيمتد التأثير إلى الألمنيوم والزنك وغيرهما من المنتجات، ومع انتظار الحلول ليست هناك قوة توقف هذا التدهور، مع التقلبات الحادة في الأسعار. وعلى الرغم من أن أسعار الغاز الطبيعي ما زالت مستقرة في أميركا، لكن قيمة العقود الآجلة ارتفعت هذا العام.
ويقول رئيس مستهلكي الطاقة الصناعية في أميركا بول سكيبيو إن توفير الحاجات يستوجب تلبية جميع المتطلبات الجديدة، ومنها النظر في موجة ضخمة من الاستثمار لتفادي العجز"، بحسب ما نقله تقرير "بلومبيرغ". وهو ما حدث بالفعل بعد تعهد قادة "مجموعة السبع" بدعم الاستثمار العام في مشاريع الغاز، قائلين إن "في الأزمة الحالية لا بد من الرد"، لكن التداعيات لا يبدو أنها تقف عند ذلك.
في تطور لاحق، تم الإعلان في أوروبا عن خطط إنشاء نحو 20 محطة، أو التسريع في بنائها منذ بداية حرب أوكرانيا، إذ اتجهت ألمانيا، التي ليست لديها محطات للغاز الطبيعي المسال، إلى تخصيص نحو 3 مليارات دولار لاستئجار أربع محطات عائمة وربطها بشبكة البلاد. ومن المنتظر تشغيل عشر محطات استيراد جديدة في 2023 وحده، في حين ستتضاعف السعة تقريباً في غضون خمسة أعوام حتى 2025.
ووفق محللين، قد يدخل غياب البنية التحتية لاستقبال شحنات الغاز الطبيعي، الاتحاد الأوروبي في "فقر الطاقة"، فعلى الرغم من امتلاك إسبانيا أحد أكبر المرافق، لكن قدرتها على تدفق الإنتاج محدودة، إذ لديها خطان فقط من خطوط الأنابيب إلى فرنسا عبر جبال البيرينيه، وهي القادرة على حمل ما يزيد قليلاً على عشر هذه الأحجام، وفقاً لـ"بلومبيرغ إنتليجنس".
إلى ذلك، تشهد أحواض بناء السفن في كوريا الجنوبية سرعة في بناء معظم ناقلات الغاز الطبيعي المسال في العالم مع زيادة الطلبات، ما يتركها مع نقص في العمالة الماهرة، فاتجهت نحو البحث في خارج البلاد عن عمال اللحام والكهربائيين والرسامين في تايلاند، الأمر الذي زاد حصتهم من العمال المهاجرين.
في بعض الحالات، يعني هذا تحولاً جذرياً عن السياسات التي تهدف إلى مكافحة تغيّر المناخ، لا سيما في أوروبا. وأشارت جهات الإقراض المدعومة من الحكومة، مثل بنك الاستثمار الأوروبي والبنك الأوروبي للإنشاء والتعمير، التي ركزت على تمويل الطاقة المتجددة، إلى تحول ما، قائلة إنها الآن أكثر استعداداً لدعم مشاريع الغاز، لكن جهود أوروبا الخطيرة كانت منتصرة، وهذا ليس كافياً وفقاً لـ"بلومبيرغ إنتليجنس"، التي تحسب أن واردات الغاز الطبيعي المسال يمكن أن تلبي 40 في المئة من حاجات الغاز في المنطقة بحلول 2026، أكثر من ضعف رقم العام الماضي.
وتحدّ تايلاند من واردات الغاز الطبيعي المسال بسبب ارتفاع الأسعار، ما قد يعرض البلاد لخطر نقص الوقود. كما أن ميانمار، التي ابتُليت بعدم الاستقرار السياسي، أوقفت جميع مشتريات الغاز الطبيعي المسال أواخر العام الماضي، عندما بدأت الأسعار بالارتفاع. كما خفّضت الهند والصين الواردات.
وقال العضو المنتدب لشركة "فانير غلوبال ماركتس" في سنغافورة جيمس ويسلر، "في الوقت الذي كانت أسواق الغاز الطبيعي صامتة على المستوى الإقليمي إلى حد كبير، فإن لدينا الآن سوقاً فورية معولمة. وفي الأسبوع الماضي، قالت الحكومة الألمانية إنها تجري محادثات لإنقاذ شركة "يونيبير أس إيه"، التي تفقد ما يقرب من 30 مليون يورو (31 مليون دولار) في يوم واحد، لأنها تخسر أسعار السوق الفورية. ويجب تغطية الغاز الروسي. وتقول شركات مثل شركة الكيماويات "باسف أس إيه" إنها قد تضطر إلى خفض الإنتاج [R1].
وأشار "دويتشه بنك" إلى تزايد مخاطر "الركود الألماني الوشيك على خلفية تقنين الطاقة"، لافتاً إلى ارتفاع أسعار الكهرباء في إيطاليا وفرنسا أيضاً. وتوقع بنك "مورغان ستانلي" أن تكون منطقة اليورو بأكملها في حالة ركود بحلول نهاية العام.
بالنسبة إلى بعض الاقتصادات الناشئة، التي يتعين عليها التنافس بشكل متزايد مع الدول الغنية مثل ألمانيا في العطاءات لشحن الغاز الطبيعي المسال مع تحول الغاز إلى العالمية، فإن العواقب وخيمة بالفعل.
وفي باكستان، التي بنت نظام الطاقة الخاص بها على الغاز الطبيعي المسال الرخيص، أدى انقطاع التيار الكهربائي المخطط له إلى إغراق المناطق في الظلام خلال أشهر الصيف الحارقة. وصدرت أوامر بإغلاق مراكز التسوق والمصانع في المدن الكبرى مبكراً، ويعمل المسؤولون الحكوميون ساعات مخفضة.
ومن المتوقع أن ينخفض الاستهلاك العالمي للغاز بشكل طفيف في 2022 على خلفية الحرب في أوكرانيا، ما سيحدّ من نمو الطلب لأعوام مقبلة، وفق ما أعلنت وكالة الطاقة الدولية.
وذكر تقرير فصلي أصدرته الوكالة أن من المتوقع أن ينخفض الاستهلاك العالمي للغاز الطبيعي بشكل طفيف في 2022، وأن يرتفع ببطء خلال الأعوام الثلاثة المقبلة، في حين أدت الحرب في أوكرانيا إلى ارتفاع الأسعار، وأثارت مخاوف من استمرار الاضطراب في الإمدادات.
نتيجة لهذا الوضع الجيوسياسي الجديد، أوضحت وكالة الطاقة الدولية أن الطلب العالمي على الغاز "من المتوقع أن يزداد بما مجموعه 140 مليار متر مكعب بين عامي 2021 و2025"، أي "أقل من نصف الإجمالي المتوقع سابقاً، وأقل من الزيادة، 170 مليار متر مكعب، المسجلة لعام 2021 وحده"، الذي تميز بانتعاش الاقتصاد العالمي المشلول في 2020 بسبب جائحة كورونا.
ويشكل ذلك عقبة أمام الأعوام القليلة المقبلة تعزى "بشكل أساس" إلى ضعف النشاط الاقتصادي، والتحول الأقل من الفحم والنفط إلى الغاز. ويعود "الخمس فقط" من هذا التراجع في النمو إلى تحسين كفاءة الطاقة والتحول من الغاز إلى مصادر الطاقة المتجددة، بحسب التقرير.
وتظهر هذه النتيجة أهمية "الحاجة لتسريع الانتقال إلى الطاقة النظيفة"، وفقاً لوكالة الطاقة الدولية. ويرى مدير قسم الأسواق وسلامة الطاقة في الوكالة كيسوكي ساداموري، أنه في مواجهة "ارتفاع الأسعار الحتمي في حين تتنافس جميع الدول في العالم على شحنات الغاز الطبيعي المسال"، فإن "الاستجابة الأكثر استدامة لأزمة الطاقة العالمية الحالية تكمن في تعزيز الجهود والسياسات لاستخدام الطاقة بشكل أكثر كفاءة، وتسريع التحول إلى الطاقة النظيفة"، مثل الغاز الحيوي والميثان الحيوي والهيدروجين الأخضر. وسيساعد هذا الأمر في تهدئة ارتفاع الأسعار، و"يسهّل حصول الأسواق الناشئة على الإمدادات التي يمكن أن تسهم على المدى القصير في تحسين كثافة الكربون وجودة الهواء"، وفقاً لوكالة الطاقة الدولية.
على العكس من ذلك، خلص التقرير إلى أن الجهد الأوروبي المتزايد للتخلص تدريجاً من الغاز الروسي من خلال استبداله بالغاز المسال، إلى جانب الإمكانية العالمية "المحدودة" لزيادة صادراته، "يزيد من مخاطر" التوترات في السوق.
التقرير نقلا عن الإندبندنت