بعد الاتهامات التي طالت ”ماكيت القاهرة”
السرقات الأدبية بمصر.. مؤامرة أم غياب للنقد
تُحدث تهمة السرقة الأدبية في الساحات الثقافية حالة من عدم الاستقرار، وتنقسم من أجلها الصفوف بين مؤكدا على السرقة وبين مدافعا عن كاتبها، وتتنوع حولها الأوصاف، يفضل البعض لفظ الاختلاس وآخر يستخدم الاقتباس أو التناص، وبينهم فروق لم يحددها البحث النقدي على وجه الدقة.
وطالت هذه التهمة الكثير من الأسماء التي نقشت اسمها في التاريخ المصري للأدب، منها على سبيل المثال الأديب توفيق الحكيم، حيث اقترن اسمه بتهمة السرقة الأدبية في العام 1942، أي منذ بداية مشواره الأدبي، ومع أول نص مسرحي له المعنون بـ "العريس"، حيث كشف عاصم زكريا، أنها مقتبسة من مسرحية فرنسية يرجِّح أنها "مفاجأة أتور".
وكتب الناقد محمد عبد المجيد حلمي حينها قائلاً: "وقفت من المسرحية موقفاً جامداً، لأنها نقلت من الفرنسية إلى العربية، فقط مع تغيير الأسماء، أصبحت قصة إفرنجية في كل عاداتها ومواقفها ومراميها، فقط أبطالها مصريون".
المدهش هو عدم إنكار "الحكيم" تهمة الاقتباس تلك، ولاحقته تهمة السرقة مرة أخرى، عندما بدأ الكاتب أحمد رشدي صالح سلسلة مقالات نقدية، قارن فيها بعض مسرحيات توفيق الحكيم وبين بعض الأعمال الأجنبية.
وحديثا، وبعد أن هدأت عاصفة الاتهامات التي طالت رواية "ماكيت القاهرة" التي صعدت إلى القائمة القصيرة لجائزة "البوكر" العالمية مؤخرا للكاتب طارق إمام، والعاصفة المضادة لها، نفتح هنا تحقيقا عن الرواية التي تُتهم بالإختلاس أو السرقة الأدبية.
وبلا شك ستكون "ماكيت القاهرة" هي النموذج والمرشد لفهم ملابسات الإتهام والدفاع عنه، لذلك حرصت "الديار" على استطلاع اراء بعض الأدباء حول اشكالية السرقات الأدبية وكيف تكتشف وقضايا أخرى.
في البداية قال الشاعر والروائي السوري هوشنك أوسي: بعدما قرأت الرّواية وذهلت من حجم الأخطاء التقنيّة والفنيّة التي شابت "ماكيت القاهرة" وطويت رأيي فيها، على مقالة مطوّلة، معززة بالإقتباسات والبراهين على خلاصات رأيي فيها، ونشرتها، تحت عنوان ("ماكيت القاهرة" لطارق إمام: العاصمة بوصفها مستشفى مفتوحاً للأمراض العقليّة)، أثناء القراءة وكتابة المقال، تشكّلت لدي شبهة الإختلاس، لكن، ينقصه البرهان القطعي الثّبوت والدّلالة، وطويت تلك الشّبهة، في الفقرة قبل الأخيرة من المقال، بعنوان "فتاوى"، وأشرت إلى "الاستلهام" من تجربة فنان الشوارع البريطاني (Banksy)، في بناء شخصيّة بلياردو في "ماكيت القاهرة"، واستغربت أن "إمام" غيّر اسمه إلى بانكي (Banky) وحذف حرف S من اسمه (ص388)، وفي الصفحة 389، وعلى لسان الرّاوي، أشار الكاتب إلى أن بطله بلياردو، سرق مقولة من الرسّام البريطاني (Banksy) وقام بتحويرها، "ليمحو أثر سرقته لها"، يعني أن بلياردو اختلس داخل الرّواية، وطارق إمام غيّر اسم الرسّام من (Banksy) إلى (Banky)!
وبعد القليل من التحرّي، اكتشفت أن القصّة التي شارك بها في جائزة "متحف الكلمة" الإسبانيّة، المشتبه بها، كانت بعنوان "العين": (ذات مرة، وجدت عينًا ملقاة في أحد الشوارع، عين حقيقية. حتى عندما انحنيت وأمسكت بها بلطف لمست دموعها. (...). أخذتها بعناية حتى لا تنفجر، أبحث عن شخص ما لأعطيها له، كنت أنظر إليها بشكل جانبي، ورأيتها تتأمل المدينة المهزومة، من دون وجه نظر إليها، من دون جار يرافقها ليرى بها، في النهاية - تعبت راحتي، واهتمت بها (...) وفقط في المنزل، تذكرت أنني ذات يوم فقدت إحدى عيني).
الرّواية: (قابل بلياردو معجزته في تلك الليلة التي توقّف فيها فجأةً، مستشعرًا شيئًا يبرق تحت قديمه (...) انحنى عليها. كانت عينًا إنسانيّة، عينًا حقيقيّة، مكتملة وحيّة، ولا تزال قادرة على النظر (...) كشطها براحة يد (...) وما أن رفع يده بها فيما تسبح على راحته حتّى غرقت كفّه بالدموع (...) ظلّ يلتفت باحثًا في الوجوه عن شخصٍ يهديها له، كأنّه هو نفسه لم يفقد في وجهه عينًا) {ماكيت القاهرة، ص30-31}. إذن، شخصيّة بلياردو في الرواية، هي إعادة تدوير لقصّة "العين" المشار إليها أعلاه. وربّما يبرر بعض النقّاد ذلك، على أن هذا من حقّه، فهو لم يسطو على فكرة أو مخيال شخص آخر، دعك من هذه، ماذا عن المشهد الافتتاحي لـ"ماكيت القاهرة"؟ فقد جاء هكذا: (يتذكّر أوريجا أنه كان طفلاً حين قتل أباه بهذه الطريقة: ألصق إصبعه بجبهته، متخيّلاً أنه مسدّس وأطلق من فمه دويًّا؛ بوم". كان الطفل على وشك أن يضحك من هذه التمثيلية الطفولية. كان على وشك أن يطلب إعادتها بعد أن يغلق أبوه عينيه مفتعلاً الموت ويفتحهما، لكنه لم يفعل) (ص2).
وبمقارنة بين هذه الافتتاحيّة، والقصّة الأولى التي فازت بجائزة متحف الكلمة للكاتب الأرجنتيني Armando Macchia de Mendoza) والتي جاءت تحت عنوان "القنّاص".. (كل يوم، أثناء انتظار الحافلة، كان طفل يشير إلي من الشرفة بإصبعه، ويسحب الزناد كطقوس، بندقيته الخيالية، وهو يصرخ في وجهي "بونغ بونغ!" ذات يوم، لمجرد مواصلة المسرحية الروتينيّة، أشرت إليه أيضًا بإصبعي، وأصرخ "بونغ، بونغ!" سقط الطفل في الشارع وكأنه أصيب. ركضت إليه، ورأيت أنه فتح نصف عينيه ونظر إلي مذهولاً. قلت يائسة "لكنني كررت الشيء نفسه كما فعلت معي". فأجاب حزينًا: "نعم سيدي لكني لم أكن أطلق النار لكي أقتل) الفارق بين القصتين، في الأولى مات الأب، في الثانية، مات الطفل. لكن المشهدية الدراميّة في القصتين، وفكرتهما، واحدة.
يعني، شخصيّة بلياردو في "ماكيت القاهرة" هي إعادة إنتاج لقصّة العين التي شارك بها إمام في تلك الجائزة، وشخصيّة أوريجا، ومدخل الرواية، مختلسة من القصّة الكاتب الأرجنتيني، ونمي إليّ أن شخصيّة "نود" أيضًا اختلسها إمام من إحدى القصص المشاركة في جائزة "متحف الكلمة" ولم أتحرَّ عن ذلك، لأن أدلّة جرم الاختلاس باتت كافية، بل تزيد أيضًا!
نظرية التناص
من جانبها قالت الدكتورة زينب العسال: إن السرقات الأدبية من الموضوعات التى تثار دائما فهو موضوع جديد قديم والعكس .. لعلنا نتذكر اتهام عبد المنعم شميس لطه حسين بأنه سرق الأيام من كتاب منصور لأحمد ضيف، وهناك من اتهم إحسان عبد القدوس بسرقة رواية لا "أنام" بأنها مأخوذة من رواية "مرحبا أيها الحزن" لفرنسواساجان، كما اتهم عبد الرحمن الشرقاوى بأن روايته "الأرض" مأخوذة من رواية إيطالية
والسؤال متى يطلق علي العمل الإبداعي سواء قصيدة أو رواية أنها مسروقة؟..انا أضف إلي ذلك الرسائل الجامعية والتى يتفنن بعض الباحثين فى السرقة بداية من عدم ذكر اسم المكتب أو ضاحية أو تغيير ملفوظه وتشويه الإقتباس أو تتعدى السرقة ذلك بفصول كاملة !
والحقيقة أن وسائل الإتصال والنشر الإلكتروني والميديا والتى تكشف السرقات أعتقد أنها حدت بعض الشيء من هذا الإنتشار، والسؤال ماذا بعد كشف السرقة ؟ ما هو مصير هذا السارق؟ كيف يعاقب؟، الحقيقة أنه لايتم شيء فهو تقدم بما سرقه لنيل درجة علمية، سوف تسحب الدرجة، وأعتقد أنه لابد للحركة النقدية أن تتابع وتكشف مثل كشف التعمد في السرقة لا نهلة لمجرد أن نجد تشابه في الموضوع أو اقتراب من موضوعات عالجت في السابق بالأفكار علي قارعة الطريق لكن كيف تتم المعالجة ودور التخييم والأساليب الفنية أى البحث عن أوجه الاختلاف، ولأن قضية السرقة من القضايا المصرية التى يظل أثرها علي المبدع فأتمنى أن تحال ما يطلق عليه سرقات إلى لجان تبت فيها حفاظا علي سمعة المبدع أولا وعدم إهدار حق المسروق.
أصالة الإبداع
وحول اصالة الإبداع أكد الدكتور مصطفى الضبع: أن الإبداع فن أصيل ولن تتحقق أصالته إلا بكونه على غير مثال، هو أثر لم يكن قبل أن تنشئه، وذلك ما يتطلب مراجعة لمفهوم الأصالة في الفن أولا و مدى تحققها في الإبداع ثانيا، فإذا فقد النص أصالته فقد واحدا من أهم شروط صفته (الإبداع)، وأصبح عملا مكتوب عليه الفناء، أي يتحول إلى مجرد عمل مؤقت يشبه إلى حد كبير المناديل الورقية التي تستخدم مرة واحدة، ومهما أعيد تدويرها فهي تحتفظ بفعلها المؤقت
إن الأصالة في الفن لا تعني الإعتماد على القديم ولا تعني الخروج منه وإنما تعني أن يكون العمل ابن منتجه حاملا جيناته الوراثية فلكل كاتب شفرته الوراثية التي تتحقق في نصوصه، ولكن النقد للأسف لا يعي بذلك حين لا يتنبه أن هناك أعمالا أصيلة في انتسابها لأصحابها وخروجها من أصلابهم
إن كثيرا من الكتاب اليوم تفتقد أعمالهم للأصالة دون أن لديهم القدرة على الوعي بأن الفن الأصيل هو الأبقى، فقد عاش شكسبير، وعاشت نصوص المتنبي وبقيت روايات هيمنجواي وستبقى روايات نجيب محفوظ لأنها تنتمي لمنبعها الأصيل
إن أعمالا - ليست قليلة- حصلت وستحصل على جوائز ولكنها تفتقد شرط بقائها ولن تمنحها الجوائز قدرة على الإستمرار والتأثير لأن أسبابا كثيرة تسببت في ذلك في مقدمتها سببان أساسيان:
الأول، كُتاب لديهم شغف لربح مؤقت وانتصار سطحي، أما الثاني نقاد تؤكد الحوادث على افتقادهم القدرة على اكتشاف الأصيل ممن سواه، لذا فإن الأمر أبعد من مجرد نص يفوز أو مجرد واقعة محددة، إننا إزاء وقائع تتطلب وقوفا أعمق من مجرد هوجة عابرة
المؤامرة
وقال الناقد والمترجم سيد إمام: إن المؤامرة بدأت منذ الإعلان عن القائمة الطويلة لجائزة البوكر"، أطرافها عربي حمساوي، وسوري كردي مطرود من بلاده يعيش في بلجيكا الآن، وروائي سلفي مصري معروف بعدائه لفلسفة التنوير (يحتكر لقب إله السرد)، وصبي ينتمي لجماعة الإخوان المسلمين يزعم أنه يؤلف كتاباً حول السرقات الأدبية يطلق على نفسه لقب "إله النقد" طالت إتهاماته للمبدعين المصريين بالسرقة كل الأعلام: طه حسين، توفيق الحكيم، بهاء طاهر، نجيب محفوظ، أمين يوسف غراب، وحيد الطويلة، وصولاً إلى طارق إمام: لم ينج أحد من اتهاماته..لم ينج أحد!.أما الحيثيات فمجرد لصق غلافين أحدهما لمبدع مصري (الحرامي المفترض) والثاني لمؤلف أجنبي، تهمة بلا دليل واحد، ولو سألت عن الأدلة أجاب: إبحث بنفسك لو سمحت! وجدت هذه الاتهامات المجانية صدى لدى بعض النفوس المريضة الذين استكثروا على طارق إمام ترشحه للبوكر وتعاظم فرصته للفوز بالجائزة متصورين أنهم الأجدر بمثل هذه الفرصة، المؤامرة بدأت منذ الإعلان عن القائمة الطويلة واللاستقبال النقدي والجماهيري الفذ الذي حظيت به الرواية من المحيط إلى الخليج في ظاهرة لم يسبق لها مثيل، في سكرين شوت يقول الكاتب الحمساوي للطريد الكردي: لا بد من "نسف" ماكيت القاهرة، واضح أن الدور على مصر هذه المرة، ويجيبه الكردي: الأمر يستحق. وفي دردشة أخرى يعترف: لقد ذبحته (يقصد طارق) بتعليقي، ذبح ونسف! ما هي الحكاية بالضبط؟!. الحكاية باختصار محاولة اغتيال كاتب أو إحباطه على أقل تقدير، التهمة الأولى كانت "السرقة" من مسلسل أجنبي وثائقي لا صلة له بـ"الماكيت القاهرة" على الإطلاق ظهر متزامناً مع نشر غلاف الرواية: تهمة لم يقر بها سوى عصابة الأربعة وبعض أتباعهم من المرضى النفسيين. أما التهمة الثانية فتهمة التطبيع، وقد فندها الدكتور طلعت شاهين الذي كان أحد محكمي الجائزة لثلاث دورات والذي استقبل طارق في مدريد وقت الحصول على الجائزة ومعه الشاعر أحمد يماني ولفيف من الكتاب المصريين الموجودين في أسبانيا في ذلك التوقيت.
لقد حصل طارق منذ عشر سنوات تقريباً على جائزة متحف الكلمة الأسباني المخصصة لأربع لغات: الأسبانية، والإنجليزية، والعربية، والعبرية، وفاز بها طارق على مستوى اللغة العربية وعلى متنافسين عرب ولم يحدث أن التقى الفائز العبري وجهاً لوجه أودار بينهما حديث من أي نوع، بل ولم تجمعهما صورة واحدة على الإطلاق سوى صورة جماعية ضمت المنظمين والفائزين عن اللغات الأربع دفعة واحدة ويتخذ منها "اله النقد" المأفون دليلاً على التطبيع!. الجائزة يتقدم لها مئات الكتاب العرب كل عام من شتى الأقطار، ولم يوجه لهم أحد تهمة التطبيع، الجائزة فاز بها مصري قبل طارق، وفازت بها الكاتبة المصرية سعاد سليمان بعد طارق ولم يوجه لهما أحد تهمة التطبيع (التهمة سابقة التجهيز يقصد بها النيل من وطنية الخصوم وقد طالت نجيب محفوظ نفسه بعد حصوله على نوبل). إزاء النجاح الكاسح الذي حققته الرواية من المحيط إلى الخليج لا يلتفت طارق إلى هذه الترهات، ولنتذكر دائماً أن السهام المسمومة غالباً ما ترتد إلى صدور أصحابها من الحاقدين.