جريدة الديار
الأحد 22 ديسمبر 2024 11:56 صـ 21 جمادى آخر 1446 هـ
بوابة الديار الإليكترونية | جريدة الديار
رئيس مجلس الإدارة أحمد عامررئيس التحريرسيد الضبع

ننشر مقتطفات من ”مقام الشوق” لـ عمار علي حسن

غلاف مقامام الشوق
غلاف مقامام الشوق

صدر مؤخرا كتاب جديد للكاتب عمار علي حسن بعنوان: "مقام الشوق.. تجليات صوفية"، عن الدار المصرية اللبنانية بالقاهرة.

يحتوي الكتاب على 33 مقامًا صوفيًا مختلفة عن تلك التي وردت في كتب التراث، وكانت تمثل إلهامًا وإبداعًا لمتصوفة بارزين في التاريخ الإسلامي.

جاء على غلاف الكتاب ما يصفه بأنه "كتاب سردي، يحوي مقامات صوفية جديدة، تجمع بين تجليات روحية، وأوضاع اجتماعية، وتأملات فلسفية، وأذواق أدبية، وأحوال نفسية، وطقوس دينية، وظروف سياسية.

ويحتوي الكتاب على مقامات عن الكلمة والوجود والناس والتيه والحيرة والتجربة والدرب والولاية والمعرفة والجمال والشوق والطيبة والصحبة والتعافي والغربة والوطن والاعتدال والمثابرة والعزة والعدل والإصرار والتحمل والفداء والتجرد والحصاد والطرب والخوف والصفح والتفاؤل والإقدام والعطف والبشارة والرحيل.

ويختلف هذا الكتاب عن سابقيه في التصوف للكاتب نفسه وهما "فرسان العشق الإلهي"، الذي تناول فيه أبرز الشخصيات الصوفية في تاريخ المسلمين، ودراسته الأكاديمية التي حواها كتابه "التنشئة السياسية للطرق الصوفية في مصر .. ثقافة الديمقراطية ومسار التحديث لدى تيار ديني تقليدي"، حيث أن "مقام الشوق" هو نص صوفي لمؤلفه، أضاف فيه مقامات جديدة، تختلف عن المقامات السائدة عن المتصوفة السابقين، وبذا بدا نوعا من التأمل الذاتي العميق والحر، الذي يهبط من السماء إلى الأرض، ويتفاعل مع أحوال الناس.

ويعد "مقام الشوق" هو الكتاب الأدبي الرابع والعشرين لعمار علي حسن الذي صدرت له اثنتا عشرة رواية، وسبع مجموعات قصصية، وديوان شعر، وسيرة ذاتية سردية، ومتتاليتان قصصيتان، وقصة للأطفال، إلى جانب سبعة وعشرين كتابا في الثقافة والاجتماع السياسي والتصوف، وتُعد حول أعماله الأدبية عشرون رسالة ماجستير ودكتوراه داخل مصر وخارجها، وكتبت عنها دراسات ومقالات نقدية عديدة، وترجمت بعض كتاباته إلى لغات عدة، وحصلت على جوائز رفيعة.

مفتتح

وفى باب الكلمة يقول عمار على حسن "أيها المولعون بما قد مضى فحسب، له وحده القداسة في نفوسكم ورؤوسكم، عليكم إدراك أن بينكم الآن وهنا، من لا يقلون ولاية وهداية وتزكية وتقوى عن الذين راحوا، وسكنوا في الزمن الغابر. فمن بين الذين يعرقون بينكم ويكدون في حلال وشرف، ويضحون في صمت، وترونهم في الذهاب والإياب دون أن تلتفتوا إليهم، أولياء، لا يقلون أبدًا عمن تُجلِّونهم، لا لشيء إلا أنهم راحوا.

ها نحن هنا قد ننزع عنكم بعض التتيم بالراحلين، حين نقول لكم، إن بينكم كثيرًا من أهل الولاية، فانصتوا إليهم وأنظروا، ليس لتعطوا ظهوركم للذين ذهبوا، ففيهم من القول والفعل ما يستحق الرعاية، إنما لتنتبهوا إلى من هم بين أيديكم ولا ترونهم، وهم يطيرون في الملكوت الفسيح، بينما يحطون على الأرض يكافحون في سبيل تحسين شروط الحياة.

مقام الكلمة

شق الحرف جدار العدم، ولا عدم إلا في خيال من لا يعرفون أن الوجود ليس سوى حرف يعانق حرفًا، فتصير كلمة، هي الله، من الأزل إلى الأبد، أول بلا ابتداء، ولا شيء قبله، وآخر بلا انتهاء ولا شيء بعده، في قوله اكتمال كل شيء، أما ما نقوله نحن، فمهما ارتقت بلاغته، يظل طفلًا يلهو في حدائق المعنى.

*

كل شيء هالك إلا الكلمة، وحدها تبقى، لأنها الله، وهي الروح، والمساحات غير المأهولة بين ما نريد وما لا نستطيع، لهذا نحن منجذبون إليها دومًا، حتى لو أخذتنا إلى ما فوق طاقتنا، وأدركنا ونحن ذاهبون في طاعة أنها السجن الناعم الذي يلف طيات من الحرير على كل ما فينا فيخمد مستسلمًا لسحر الكلام ومعانيه، لكنه يمدنا، دون توقف، بما يجعلنا قادرين على اختراق كل جدار، والتحليق بعيدًا بعيدًا، ونحن في إيمان راسخ بأن الحرف بعد الحرف طريق إلى أحلامنا المجنحة.

كل شيء يزول إلا الكلام، وحده يصمد في وجه الفناء، محمولًا في ألواح محفوظة، وذاكرة لا يأكلها الدود. هناك حيث لا شيء نأخذه معنا، لن يكون بوسعنا أن نستعيد ما سمعناه ورأيناه إلا بالحروف. وحدها التي سترسم كل ما خلفناه وراء ظهورنا: المباني الشاهقة، والمصانع، والغابات، والصحاري الشاسعة، والبحار الهائجة، ومقاهي المساء، ومحطات القطارات، والمطارات التي أخذتنا إلى أماكن بعيدة، وكل الوجوه التي طلت علينا في رحلة الحياة الطويلة، متجهمة وباسمة، مختلفة ألوانها وأشكالها. كل شيء سيكون بوسعنا أن نستعيد رسمه، حتى حبات العنب التي التقطناها من عناقيد تدلت، أو تمددت فوق أطباق نظيفة، أكانت على حالها أم صافية في كؤوس عذبة.

كيف لنا، ونحن هناك أن نصف ما جرى لنا هنا، راح في أقل مما تستغرقه رفة جناح فراشة، وانقطعنا عنه، ما رأيناه، وأغلقنا عنه العيون في آخر إغماضة بين الناس، أو في عزلة اختيارية أو مجبرين عليها. لا أرض هناك ندب فوقها إنما فيص وطيف ونسائم عفية، ومدى لا نهاية له، وأبدية أعطيت لنا كي نمرح فيها، كما كانت الثيران تلهو في مزارع الدنيا المفتوحة, مثلها سندرك هناك أننا كنا مجرد أعطية ورهان زائل.

إلهي، أنت خلقت كل شيء جميلًا، معجزات بعضها فوق بعض، أولها نحن، قبل سماء وأرضين. في أنفسنا ولا نبصر، فاعطنا اليقين هناك، لتبدد حيرتنا هنا، حيث أنت، وحدك من تقول لنا:

ـ أنا الكلمة.

وبها ستزول الحيرة التي أقامت وأكلت نفوسنا حتى ذهبنا إليك. فالحرف، الكلمة، الكلام، كل ما يبقى بعد زوال الأشياء جميعًا، ولأنك كلمة يا خالقنا، فأنت فوق الفناء، ونحن دونه، نرسف في أغلال مربوطة بأسفل سافلين. أنت لا تفنى ولا تبيد، ولا تكون إلا ما تريد، لأنك الكلمة، فامنح لنا بعضها هنا، حتى نؤتى ناصية البرهان إليك، قبل أن يلتف الساق على الساق، وتفارق الباقية التي هي منك، الفانية التي هي علينا.

وحدها الكلمة روحك ومشيئتك، وكل ما جرى لنا، وأجريناه بحولنا الضعيف الخفيف، وما حسب علينا وحسبناه. فالذين يحصون علينا كل شيء، قلناه أو فعلناه، لا يقدمون حصادهم قمحًا أو شعيرًا إنما حروفً متتابعة، ملضومة كلؤلؤ مكنون. حتى إشاراتنا وإيماءاتنا ليست لدينا ولديهم سوى كلام، وكذلك الصمت، الذي وحدك تعرفه يا صاحب الكلمة، ليس سوى حروف مختبئة خلف خوفنا وترددنا وخجلنا وترفعنا أو تعالينا وغرورنا.

الكلمة هي ما سيذهب معنا، ومن لا يدرك معناها هنا حيث الضجيج الذي يكاد يصم الآذان جميعًا، سيكون عليه أن يتعلم كيف يصغى إليها هناك، ويتذوق المعاني التي تحمله فوق أجنحتها التي يقف الكون كله عليها، ويدرك كم خسر كثيرًا حين توهم أن الكلام عبء، وأن بوسعه أن ينتقل إلى التدبير دون تعبير.

يا إلهي، الذين فهموا أنك الكلمة الحرة الكاملة المتعالية، هم من سعوا إليك في يقين، وهم من لم يركنوا إلى ما هم فيه على أنه غاية كل شيء، لأنهم أدركوا أن الكلمة لا نهاية لها، وأن كلامنا هنا مهما ارتقت بلاغته فهو طفل يلهو في حدائق المعنى، ومهما علت فصاحته عاجز عن تحديد أو تصوير أو تفسير كل ما نريد قوله، وكل ما يدور في أذهاننا، ويجوب نفوسنا بلا استئذان.

نحن هنا يضيع كلامنا تحت ركام من سوء الفهم والإضمار والمبالغات والكذب والأفهام المسمومة بالريبة والظنون، والاستخفاف بأمانة الكلمة، والتيه بين الثرثرة والحجة، واحتقار الكلام على زعم أنه مضيعة للوقت، مع أن كل شيء يبدأ من الكلام وينتهي إليه، طوعًا أو كرهًا.

هؤلاء الواهمون هم أغلب أهل الأرض. إنهم الإفك الذي تذروه الريح. الأكاذيب التي يأكلها الدود. الزرع الذي يصفر ويشيخ وتبلعه أرضه، لأن أيدي الحصادين تأبى أن تمنحه ما يجعله مفيدًا للناس، حتى ولو صار وقودًا للمتحلقين حول مدافئ الشتاء البارد، التي تزهر باللهب.

هؤلاء إن تكلموا فإن حروفهم إبر مسنونة، ما إن يلمسها أحد حتى تدميه. الحرف إما ورد أو شوك، نسيم أو عاصفة، وجود أو عدم. والذين يؤمنون بأن الحرف ورد ونسمة ورسوخ أبدي هم من الواصلين، لأنهم أقرب إلي صاحب الكلمة وعين ذاتها. إنهم من نالوا الحكمة التي تأخذهم في أقرب سير على درب المعاني حتى يبلغوا سدرة المنتهى.