عمر محمد الشريف يكتب : السيدة آمنة أم سيد البشر
أم النبي المكرم والإمام الأعظم، القرشية العدنانية، درة بنات بني زهرة، سيدتنا آمنة بنت وهب بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر، زوجة زينة شباب قريش سيدنا عبد الله بن سيد قريش عبد المطلب بن هاشم.
كان سيدنا عبد الله فتى جميلاً وسيماً، يشرق النور من وجهه، ويشع البهاء من طلعته، يتلألأ كالقمر، كانت نساء قريش يتمنين الزواج منه، لما كان يتمتع به من أخلاق واستقامة، إلى جانب ما فيه من جمال طلعة وإشراقة وجه.
ولكن القدر كان قد تخير عروس عبد الله فكانت عروسه السيدة آمنة، وكان أبوها وهب بن عبد مناف سيد بني زهرة سناً وشرفاً، يجتمع نسبه مع النبي صلى الله عليه وسلم في كلاب بن مرة، وفيه يقول الشاعر: يا وهب يا بن الماجد بن زهرة، سُدت كـلابـا كلهـا ابن مـرة، بـحــســبٍ زاكٍ وأمٍّ بـرّة.
أخذ عبد المطلب بيد ابنه عبد الله ومضى إلى بني زهرة فخطب له آمنة، زفوها إليه، وكان الزواج المبارك، فاشتملت منه بجنين، ولم يطل المقام بعبد الله في بيت الزوجية فخرج في قافلة تجارية متجهة إلى الشام، فحياتهم قائمة على التجارة وهي مصدر رزقهم.
قبل أن يودعها متجهاً إلى الشام، حكت له آمنة رؤيا رأتها وكانت فيها البشرى، فقالت: رأيت كأن شعاعاً من نور ينبثق من كياني فيضئ الدنيا من حولي حتى كأني لأرى قصور بصري في الشام، وسمعت هاتفا يخبرني أني حملت بسيد هذه الأمة.
سمع منها البشرى ورحل سيدنا عبد الله إلى الشام دون عودة، تعرض لوعكة خلال سفره فتخلف عند أخوال أبيه في يثرب، اختطفه الموت فمات هناك ودفن بعيداً عن أبيه وقومه، تلقت السيدة آمنة نعي زوجها بأسف وحسرة وقالت تعزي نفسها:
عفا جانب البطحاء من زين هاشم وجاور لحداً خارجًا في الغماغم
دعته المنايا دعوة فأجابها وما تركت في الناس مثل ابن هاشم
عشية راحوا يحملون سريره تعاوره أصحابه في التزاحم
فإن تك غالته المنون بريبها فقد كان معطاء كثير التراحم
لم تجد آمنة في حملها بالنبي المكرم ما تجده النساء من المشقة، وأتمت شهور حملها، وفي يوم اثنين بعد اثنتي عشرة ليلة خلت من ربيع الأول من عام الفيل وضعت حملها، حيث أذن الله للنور أن يسطع، وللنسمة المباركة أن تخرج إلى الكون، لتؤدي أسمى وأعظم رسالة عرفتها الدنيا.
كان المولود غلاماً مشرقًا، فحمله جده عبد المطلب فرحاً به متوسماً فيه الإمارة والسؤدد، قبله بين عينيه، وقال: الحمد لله الذي أعطاني هذا الغلام الطيب الأردان أعيذه بالواحد المنان من كل ذي عيب وذي شنآن حتى أراه شامخ البنيان
أرضعته السيدة آمنة ريثما تفد المراضع من البادية، حيث كانت من عادة الحضر من العرب أن يسترضعوا أبنائهم في البدو ابتعاداً بهم عن أمراض المدن ورغبة في تقوية أجسادهم.
فدفعته أمه لثويبة جارية عمه أبي لهب لترضعه، وكانت أكثرهن إرضاعاً له سيدتنا حليمة بنت أبي ذؤيب السعدي، فرأت الخير والبركة والسعادة وخفض العيش في دارها بطريقة غير مسبوقة ولا معهودة، فمكث معها سنتين، وبعد أن أتم سن الرضاع، تولته السيدة آمنة بالحب والحنان والعناية والرعاية.
ظل سيدنا محمد في كنف أمه ورعاية جده، حتى قررت السيدة آمنة الخروج إلى يثرب لزيارة أخواله من بني النجار أي أخوال عبد المطلب، وكان النبي صلى الله عليه وسلم في السادسة من عمره، وهناك أرت أمنة ولدها البيت الذي مات فيه والده عبد الله، والمكان الذي دفن فيه.
أنهت زيارتها وفي طريق عودتها لمكة مرضت كما مرض زوجها من قبل، وفاضت روحها الطاهرة إلى بارئها، مضت إلى رحاب ربها الواسع، ودفنت بالأبواء بين مكة والمدينة، بعيدة عن قومها، كما مات سيدنا عبد الله وكما دفن سيدنا عبد الله.
وكان صلى الله عليه وسلم يزور قبرها ويبكي بكاء حاراً على فراقها، فقد ورد أنه زار قبر أمه في أثناء غزوة الحديبية وبكى عنده وبكى المسلمون عند القبر لبكائه، وسئل عن بكائه فقال: أدركتني رحمتها فبكيت.
روى مسلم في صحيحه وأبو داود في سنته: ان النبي خرج يوما وخرجنا معه حتى انتهينا للمقابر، فأمرنا فجلسنا، ثم تخطى القبور إلى قبر منها، فجلس إليه فناجاه طويلًا، ثم ارتفع صوته ينتحب باكياً فبكينا لبكاء الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم إن الرسول أقبل علينا وتلقاه عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال: ما الذي أبكاك يا رسول الله فقد أبكانا وأفزعتنا فأخذ بيد عمر، ثم أومأ إلينا فأتيناه فقال: أفزعكم بكائي فقلنا نعم يا رسول الله، فقال ذلك مرتين أو ثلاثًا، ثم قال: إن القبر الذي رأيتموني أناجيه قبر أمي آمنة بنت وهب وإني استأذنت ربي في زيارتها فأذن لي.
رحم الله سيدتنا آمنة بنت وهب، والدة سيد البشر ومصطفى الله من خلقه ومجتباه من عباده.