”ظَاهِرُوا ظَاهِرَ الإِثْمِ وَبَاطِنَهُ” – حين يصبح الإحسان جريمة والصدق معركة
![](https://media.eldyar.net/img/25/02/07/607147_1738953791.jpg)
في زمن تبدلت فيه القيم، وصار المعروف جريمةً في أعين المنافقين، يواجه أصحاب العطاء والواجب محنةً قاسيةً، حيث يُقابل إخلاصهم بالجحود، ووفاؤهم بالخيانة. إنها ظاهرة "ظَاهِرُوا ظَاهِرَ الإِثْمِ وَبَاطِنَهُ" التي تنذر بانهيار منظومة الأخلاق، حين يلبس الشر ثوب الفضيلة، ويصبح الغادر هو المنتصر في ساحة الحياة. العطاء بين الإحسان والاستغلال يقول الإمام ابن القيم -رحمه الله-: "إذا جُعل المعروف لغير أهله ضاع، وإذا وُضع في غير موضعه كان ظلمًا"، وهذا ما يحدث اليوم حين يقدم الإنسان الخير، فلا يجد إلا الجحود. يُحكى عن رجلٍ أفنى عمره في خدمة الناس، لم ينتظر شكرًا، لكنه حين احتاج من يقف إلى جانبه، وجد الأبواب تُغلق في وجهه، والقلوب التي ادّعت محبته تنصرف عنه بلا تردد. هذه الظاهرة لم تكن غريبةً عن الزمن الماضي، فقد حذرنا النبي ﷺ بقوله: "يأتي على الناس زمان الصابر فيهم على دينه كالقابض على الجمر" (رواه الترمذي)، فإذا كان الصبر على الدين بهذا العناء، فكيف بالصبر على الأخلاق والقيم في عالم يُمجد المادة والمصالح؟ الخيانة.. سلاح الضعفاء وضعاف الإيمان الخيانة ليست فعلًا عابرًا، بل هي مرضٌ في النفوس. فقد وصفها الله في كتابه العزيز بقوله: "إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ" (الحج: 38). والخيانة ليست مقتصرةً على المال أو الأسرار، بل تمتد إلى خيانة القيم والمبادئ، وخيانة أصحاب العطاء الذين وهبوا حياتهم لخدمة غيرهم. قال الإمام الغزالي في كتابه إحياء علوم الدين: "من أعظم البلايا أن يكون المرء محسناً فيُقابل بالإساءة، صادقًا فيُقابل بالكذب، نقيًا فيُتهم بالنفاق". وهذا ما يعانيه اليوم أصحاب القلوب النقية، حين يجدون أن كلماتهم تُحرّف، وأعمالهم يُساء تأويلها، فقط لأنهم تمسكوا بصدقهم في عالمٍ يُمجّد الزيف. لماذا يستمر العطاء رغم الجحود؟ قد يسأل البعض: لماذا يُصرّ أصحاب الخير على العطاء رغم كل هذا الجحود؟ والجواب عند رسول الله ﷺ حين قال: "أفضل الأعمال أن تُدخل السرور على قلب مسلم" (رواه الطبراني). فالعطاء ليس لأجل الناس، بل لأجل الله، والجزاء ليس من البشر، بل من خالق البشر. ويقول الشيخ الشعراوي -رحمه الله-: "إذا كنت محسناً فلا تنتظر جزاءً من الناس، فإن لم تجد منهم جزاءً، فاعلم أن لك ربًّا لا يُضيع أجر المحسنين". رسالة إلى أصحاب القلوب النقية إلى كل من أعطى ولم يُقدّر، وإلى كل من صدق فخُدع، وإلى كل من وقف مع الناس في أزماتهم ليجدهم غائبين في أزمته: لا تحزنوا، فالله يرى، والجزاء عنده لا يُخطئ أحدًا. وكما قال تعالى: "وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ" (البقرة: 110). استمروا في عطائكم، ولا تجعلوا غدر الخائنين يطفئ نوركم. فالتاريخ لا يذكر المنافقين، لكنه يُخلد أهل الوفاء.