كان يمتد لثلاثة أيام.. طقوس عيد الغطاس لدى قدماء المصريين

يُعد عيد الغطاس هو الأضخم والأهم والأكبر احتفاليا في عموم مصر
عند كل المصريين القدماء ربما أكثر من أي عيد آخر، حيث كان الاحتفال بالغطاس يمتد ثلاثة أيام ينتهي بغطسة الغطاس الشهيرة في النيل بعد منتصف الليل!! ليلة الغطاس بعد صلاة قداس اللقان.
حيث كانت تضرب الخيام والأسرة والمظلات على جانبي شط النيل وتمتلا الدور القريبة من النيل بالمحتفلين والأقارب والأصدقاء ويستقل البعض المراكب والزوارق والفلايك حاملين القناديل والفوانيس المضاءة فتكون صفحة النيل مضاءة ومزينة بآلاف الأنوار والمشاعل والفوانيس.
في هذا العيد وعلى مدار ثلاث ليال، كان المصريون يتزينون بالحلي والذهب والملابس الملونة وكانت تقام مآدب الطعام والأكلات من كل صنف ولون وخاصة ما عرف بأكلات الغطاس حيث أطنان القصب والقلقاس والنارينج والليمون المراكبي والبرتقال واليوسفي والسمك البوري.
وكانت تعزف المعازف وتضرب الموسيقي ويغني المصريون ويرقصون ويتسامرون في أضخم احتفالية تقام سنويا على شط النيل، حتى تأتي ليلة عيد الغطاس، وينزل مئات آلاف من المصرين من الدلتا لأسوان بجميعهم رجالا ونساء وشيوخا وأطفالا!! في عز برودة طوبة الي نهر النيل وهم يحملون في أيديهم الفوانيس والفانوس كان عبارة عن شمعة عريضة مزخرفة وملونة يتفنن المصريون في صنعها وزخرفتها لهذا اليوم خصيصا وكان أحيانا يصل السعر الواحدة منها إلى 3 دنانير.
كما ذكر المؤرخ تقي الدين المقريزي في خططه أن الأمهات يصنعن لأطفالهن البلابيصا، وهي تعني بالمصرية القديمة القنديل المضيء وكانت البلابيصا عبارة عن برتقالة أو ثمرة يوسفي تفرغ من الداخل ويوضع داخلها فتيلة من الدهن ثم تضاء فيضعها الأطفال علي رؤوس أعواد القصب ويطفون بها القري والنجوع والكفور علي طول مصر وعرضها وخاصة في قري الصعيد وقنا ونجادة والأقصر تحديدا وهم يغنون.
ليلتك يا بلابيصا ليله هنا وسرور
وفي ليلتك يا بلابيصا حنو العصفور رمز لكثرة الزينة والحنة في هذا اليوم!! لدرجة ان العصافير يتم حنتها!!
ثم يخرج الجميع من المياه ليلبسوا البياض والحلل الجديدة... اعتقادا منهم بان من يغطس في النيل في ليلة الغطاس يحفظ و يكون له الخلاص من الامراض والاسقام طيلة السنة!!!!
ويكون لبس الكتان الأبيض عند الخروج من المياه رمزا للطهارة والشفاء واستشرافا للخير والصحة وميلاد جديد للنعمة في السنة الجديدة الوليدة القادمة
كان جميع المصريون يعشقون الاحتفال بليال الغطاس الثلاثة ووبغطسة الغطاس ..رجالا ونساء شيوخا وأطفالا
ووصف المؤرخ والجغرافي العربي أبو الحسن المسعودي "896 - 957م" في كتابه مروج الذهب الذي عاصر ليلة الغطاس في سنة 330 هجرية...
ولكن الأروع وصفا كان ما كتبه ورواه المؤرخ العظيم...تقي الدين المقريزي في درة كتبه.. "المواعظ والاعتبار في ذكر الخطط والآثار"
عن عيد الغطاس فيقول
إنه يُعمل بمصر فى اليوم الحادى عشر من شهر طوبة، وأصله عند النصارى: أن يحيى بن زكريا عليه السلام، المعروف عندهم بيوحنا المعمدان عمد المسيح، أى غسّله فى بحيرة الأردن، وعندما خرج المسيح عليه السلام من الماء، اتصل به الروح القدس، فصار النصارى لذلك يغمسون أولادهم فى الماء فى هذا اليوم وينزلون فيه بأجمعهم، ولا يكون ذلك إلا فى شدة البرد، ويسمّونه يوم الغطاس، وكان له بمصر موسم عظيم للغاية
ولما تولى الأخشيديون الحكم، كان لليلة الغطاس شأن عظيم، وكان الناس "مسلمون ومسيحيون" لا ينامون فى هذه الليلة وقد حضر المسعودى سنة 330 هـ، ليلة الغطاس بمصر، والأخشيد محمد بن طفج أمير مصر فى قصره، فى جزيرة منيل الروضة، وأمر بإقامة الزينة فى تلك الليلة أمام قصره، من جهته الشرقية المطلة على النيل وأوقد ألف مشعل!!، غير ما أوقد أهل مصر من الاف المشاعل والشموع على جانبى فرع النيل.
وحضر فى تلك الليلة آلاف البشر، من المسلمين والمسيحيين، ومنهم من احتفلوا فى الزوارق السابحة فى النيل، ومنهم من جعلوا حفلاتهم فى البيوت المشرفة على النيل ومنهم من أقاموا الصواويين على الشواطئ مظهرين ما لا يُحصى من المآكل والمشارب والملابس وآلات الذهب والفضة والجواهر، وكانوا يقضون ليلتهم فى اللهو والعزف على آلات الطرب، والتحلى بالجواهر الثمينة والزينة.
بعد الأخشيديين آل حكم مصر إلى الفاطميين "969-1171م "، فجعلوا مصر مستقراً لهم، وعطفوا على كل المصريين على اختلاف مذاهبهم، ومنهم الأقباط، فقربوهم إليهم، وجعلوا أعيادهم أعياد رسمية فى البلاد، اشترك فيها الخلفاء أنفسهم... كالنيروز والميلاد والغطاس وخميس العهد
وكانوا يُخرجون من خزائنهم العطايا، ويوزعونها على رجـال الدولة، لا فرق في ذلك بين مسلم ومسيحى!
فكان إذا جاء عيد الغطاس يوزعون على الموظفين: الليمون، والقصب، والسمك البورى، وكان ذلك برسوم مقررة لكل شخص، وإذا رأينا إقبال الناس على أكل القصب فى هذه الليلة، واعتباره من عادات ورموز العيد فنذكّرهم بأن هذه العادة القديمة أدخلها الفاطميون فى رسوم دولتهم!!.
وكانت الخيام تُنصب على الشواطئ، ويأتى الخليفة ومعه أُسرته، من قصره بالقاهرة إلى مصر القديمة، وتوقد المشاعل فى البر والبحر، وتظهر أشعتها وقد اخترقت كبد السماء لكى تزينها بالأنوار البهية، ثم
تُنصب الأسرة لرؤساء
النصارى(المسيحيين)
على شاطئ النيل فى خيامهم، وتوقد المشاعل، ويجلس الرئيس مع أهله، وبين يديه المغنون ثم يأتى الكهنة والرهبان وبأيديهم الصلبان، ويقيمون قداساً طويلاً يدعي "قداس اللقان" .
.يصلون يباركون مياه النيل.
وذكر بن إياس.." أن نهر النيل كان يمتلئ بالمراكب والزوارق، فإذا دخل الليل تُزين المراكب بالقناديل، وتُشعل فيها الشموع، وكذلك على جانب الشواطئ يُشعل أكثر من ألفى مشعل وألف فانوس، وينزل رؤساء القبط فى المراكب، ولا يُغلق فى تلك الليلة دكان ولا درب ولا سوق، ويغطسون بعد العشاء فى بحر النيل، النصارى(المسيحيين)
مع المسلمين سوياً، ويزعمون أن من يغطس فى تلك الليلة يأمن من الضعف(المرض)
فى تلك السنة. ..
وظل المصريون جميعا يحتفلون كل عام بهذا العيد الي ان ابطل تلك العادة المماليك الجراكسة اللذين تولوا حكم مصر عام1382م.