تطورات الحرب الروسية الأوكرانية وخيارات الكرملين بعد الهزائم بخاركيف
بدأت عملية الهجوم الأوكراني على خاركيف بإدارة غربية فعليا مطلع شهر أغسطس الماضي عندما أعلن وزير الدفاع الأوكراني أليكسي ريزنيكوف عن البدء بحشد قوات مليونية مجهزة بأسلحة غربية لتحرير المناطق الساحلية الجنوبية الحيوية لاقتصاد البلاد وصرح علنا بأن الهدف الأولي هو خيرسون.
ذات الأهمية الاستراتيجية الكبرى، وبدأ بالفعل يحشد قوات كبيرة في ميكولاييف وعلى جبهات خيرسون كما قام باستهداف خطوط إمداد المقاطعة بضرب مطارات ومستودعات ذخيرة في القرم وكل هذا أقنع الروس والعسكريين بجدية العمل على خيرسون، وأنه ليس مجرد كلام أو تمويه أو حتى مجرد عمل تكتيكي صغير.
قام الروس بتحصين جبهة خيرسون جيدا وزجوا بمزيد من قواتهم لدعمها بوجه الهجوم الأوكراني المحتمل، وكان الأوكرانيون مع تحشيدهم الحقيقي في خيرسون، كانوا أيضا يحشدون سرا أضعاف مضاعفة من القوات والعتاد في مدينة خاركيف كبرى مدن الشرق لعمل عسكري مباغت، بلتزغريك، على جبهات خاركيف.
تضم أرياف خاركيف التي يسيطر عليها الروس بعض المدن الكبيرة أهمها مدينة ايزيوم التي تحوي غرفة العمليات الروسية الرئيسية وبها كبار الضباط الذين يقودون المعارك في الجبهة الشرقية الشمالية.
أعلن الأوكرانيون بدء معركة خيرسون وتقدمت قوات أوكرانية هجومية محور هجوم ثانوي في محاولة لإيهام الروس بأن المعركة المليونية بدأت بالفعل وهي على مقاطعة خيرسون فعلا، وماهي إلا أيام وبتاريخ 6/9/2022 باغت الجيش الأوكراني القوات الروسية من محور آخر في الجبهة الساكنة خاركيف.
بأعداد هائلة مجهزة جيدا بأسلحة غربية وبدأت معركة طاحنة على جبهات خاركيف تمكن الأوكرانيون فيها خلال 48 ساعة من كسر خطوط الدفاع الروسية عند نقطة بالاكليا والتقدم نحو المناطق الروسية، وقاموا بعملية التفاف كبيرة شمال ايزيوم لتطويقها وبدأوا بالتحرك من الشمال جنوبا بمحاذاة نهرأوسكو.
النجاح الباهر الذي حققه الأوكرانيون يقتضي ببساطة وسهولة محاصرة القوات الروسية في مدينة ايزيوم وأسرهم جنودا وضباطا وقادات بصورة مصغرة لما حدث للجيش الألماني السادس في ستالينغراد، وبعد 72 ساعة من بدء الهجوم وصلت القوات الأوكرانية إلى مشارف ايزيوم من الشمال.
وبقي بضعة كيلومترات قليلة تفصلها عن الوصول إلى شرق ايزيوم حيث المنفذ الوحيد المتبقي للروس.
تفطنت القيادة العسكرية الروسية للأمر، وأمروا بالانسحاب الفوري والسريع من ايزيوم الى غرب النهر قبيل وصول القوات الأوكرانية بأميال منعا لحصار المدينة الذي لو تم لكانت الكارثة الروسية اليوم أضعاف ما يتجرعه الجيش الروسي من هزائم في خاركيف.
فخيارات القيادة العسكرية الروسية كانت خيارات مرّة جدا، إما أن يخسروا ايزيوم وعتادهم وجنودهم أو ينفذوا بأرواح الجنود، وقد اختاروا الثاني ونجوا بأرواحهم.
ومع انهيار الجبهة وخطوط الدفاع بدأت الانسحابات تتوالى وبدات الارتال الأوكرانية تتقدم دون قتال في مناطق خالية هرب منها الروس مع السكان الموالين لهم الى مناطق روسية في الخلف، في أنجح هجوم أوكراني منذ بدء الحرب الروسية فبراير الماضي.
تكبد الروس خسائر فادحة جدا في خاركيف، وتركوا خلفهم مستودعات ذخيرتهم وبعض آلياتهم ومرابض المدافع وغير ذلك مما لا يمكن بسهولة سحبه فورا، وانهارت معنويات الروس على حساب معنويات الاوكرانيين الذين بدأوا يثقون بقدراتهم وأنهم يمكن أن يحققوا نصرا على الروس ويستعيدوا مناطقهم.
وأوصل زيلنسكي رسالة عملية للناتو مفادها بأن دعمكم ليس هباءا بل النصر وارد على روسيا وهذا الدليل العملي أمام الجميع.
وهنا نقف على محطات سريعة من الحرب لمشاهدة الصورة الكاملة من الاعلى:
بدأت المرحلة الأولى من الحرب الروسية بهجوم كاسح بهدف السيطرة على كامل أوكرانيا من خلال الوصول إلى العاصمة كييف، ولكنها فشلت فشلا ذريعا تكبد الروس فيه خسائر فادحة وتداركوا الأمر بالانسحاب السريع من محيط كييف ومحاور أخرى الى شرق أوكرانيا.
بدأت المرحلة الثانية من عملية القضم البطيء للمناطق والهجوم بأقل التكاليف والخسائر، حقق الروس خلالها مكاسب كبيرة باحكام السيطرة على 4 مقاطعات أوكرانية بشكل شبه كامل (خيرسون زاباروجيا لوهانسك دونيتسك) اضافة الى بعض ارياف خار.
بدأ الروس بتجميد الصراع منعا للاستنزاف، ولأسباب أخرى شرحناها سابقا إلا أن الغرب لن يرض بما يفرضه الروس على أرض الواقع يقينا، فبدأوا باستفزازهم والدوس على خطوطهم الحمر وضربوا القرم بصورايخ النيتو وقصفوا محطة زاباروجيا لتدويل قضيتها واستعادتها.وقاموا بتسليح الأوكرانيين بأسلحة حديثة، وبدأوا بالهجمات المضادة ثم تكللت جهودهم بنجاح الهجوم المضاد الأول لهم على جبهة خاركيف.
ما هي خيارات روسيا الان؟ وما المسارات المتوقعة للحرب؟
المسار الأول
قد تنظر هيئة الأركان الروسية والتي سكتت عن استهداف الطراد موسكو وصمتت عن استهداف القرم بصواريخ النيتو ثم وبعيدا عن الهزيمة النكراء في خاركيف التي قد يمحوها تقادم الأيام، قد تنظر إلى الوضع نظرة عامة بأنه ما يزال في صالح الروس بالمجمل حتى اللحظة.
فإكمال السيطرة على 4 مقاطعات أوكرانية ذات أهمية استراتيجية كبيرة هو أفضل ما يمكن أن يخرج به بوتين من هذه الحرب التي بالتأكيد ودون أدنى شك لا تمشي وفق ما خططت له القيادة الروسية
وفي حال قررت هيئة الاركان السكوت أيضا عن هزيمة خاركيف وعدم اجراء اي تغير جذري في مستوى أو رقعة.
الحرب، وأسكتت جمهورها الروسي بقطع الكهرباء عن شعوب أوكرانية غالبيتها روسية الهوى تؤيد روسيا بالمجمل (شرق وجنوب اوكرانيا الأغلبية تؤيد روسيا) وهذا هو المتوقع حاليا فنحن هنا نتكلم عن الاستمرار في نفس النهج، وهو عدم رضى غربي عن الواقع الحالي، وتصعيد غربي بمزيد دعم لأوكرانيا.
وتصعيد غربي بمزيد دعم لأوكرانيا وهجمات أكبر لاستعادة كامل اوكرانيا، وصمت روسي للمحافظة على المكاسب التي حققتها روسيا دون الخوض في مغامرات جديدة غير محسوبة العواقب.
المسار الثاني
قد تخرج هيئة الاركان الروسية عن صمتها وترفع من مستوى الحرب (مع عدم توسيع رقعتها) باللجوء الى السلاح النووي التكتيكي، وهذا متوقع خلال الشهور القادمة في حال استمرت القوات الاوكرانية بتحقيق نجاحات عسكرية ميدانية، إلا أن هذا الاتجاه ومع ضمان تحقيق نتيجته الحتمية.
الرادعة عسكريا إلا أنه محفوف بالمخاطر لأن العالم كله حينها سينتفض بلا شك على جميع المستويات، وستكون كارثة عالمية كبرى يعلم الغرب كيف يستغلها لإحداث بلبلة قد تؤدي لفوضى في روسيا أو تضعضع المنظومة الحاكمة في موسكو.
والتصعيد الغربي حاليا لا تفسير له إلا أنه يهدف إلى جر الروس لمثل هذا الجنون ليعملوا على استغلاله في اسقاط قادة الكرملن، إلا أن شعبية بوتين التي تزيد عن 70% وتأييد الروس له سيدفعه لمزيد من التصعيد بدلا من التراجع.
المسار الثالث
توسيع رقعة الحرب مع الحفاظ على مستواها التقليدي وذلك باعلان التعبئة العامة والحرب على اوكرانيا، وهذا أمر أيضا معقد له تبعات كثيرة وإن حصل فسيقلب الموازين لصالح الروس فترة من الزمن ريثما تعود الكفة للتوازن من جديد ربما بدخول مستجدات اخرى على مسار الحرب.
التي يديرها الناتو على الطرف الاخر، وخاصة أن الروس أظهروا فشلا واضحا في إدارة عمليات عسكرية كبيرة بتوازن، فلا ضمان من عدم تكررا نفس المهازل التي حدثت في بداية الحرب والتي كان بطلها (الجرار الأوكراني) والتي فاجأت الكثير من العسكريين والمراقبين
حتى الجنرال الأمريكي مارك ميلي رئيس هيئة الأركان الأمريكية الذي توقع سقوط كييف خلال 72 ساعة فقط من بدء الزحف البري على أوكرانيا! فباختصار التصعيد سيقابل بتصعيد موازي من طرف الغرب.
المسار الرابع
استمرار حالة الجمود على خط الجبهة وتضرر الطرفين من ديمومة الحرب والنزول الى مفاوضات تفضي إلى اتفاقية مينسك3 وهذا دون الدخول في تفاصيله وحيثياته هو باختصار مجرد اعلان هدنة موقتة لن تلبث أن تشتعل من جديد، فحتى الصراعات المجمدة منذ عشرات السنين بدأت اليوم بتاثير
التغيرات الدولية تتفاعل وتتحرك (الصراع الكوري، الصراع الهندي الباكستاني، الصراع الارميني الاذربيجاني، التركي اليوناني...الخ) وهذا مسار مستبعد جدا في هذه الظروف الدولية التي نعيشها وحالات الاستقطاب والتحشيد والتحزبات الدولية، وإن حصل جدلا فلن تدوم لأشهر وستعود الحرب من جديد.
نؤكد ونكرر دائما على الفرق الشاسع بين قدرات الجيش الروسي التكتيكية في القتال التقليدي الذي لا يعدو كونه مثل أي جيش آخر ومعداته لا تجاري المعدات الغربية على الاطلاق، وبين قدرات الردع الاستراتيجي الروسية التي تشمل الترسانة النووية وحواملها الفرط صوتية.
والتي دون شك تتفوق على نظيراتها الغربية، ورقعة الحرب الحالية كلها تجري في الميدان الذي لا أفضلية فيه للروس على الاطلاق، وعند المتمعن في تفاصيل ومجريات الحرب يعلم يقينا بعد المسافات بين الأهداف الروسية والأوكرانية.
فلا سبيل أبدا للحديث عن أي تهدئة في الموقف أو حلول وسطية ترضي الطرفين، ويبقى السؤالإلى متى ستستمر روسيا في الحرب التقليدية التي ليست بصالحها؟
ومتى ستنقل المعركة إلى الميدان الذي تتفوق فيه على دول الغرب؟