جريدة الديار
الثلاثاء 5 نوفمبر 2024 08:55 صـ 4 جمادى أول 1446 هـ
بوابة الديار الإليكترونية | جريدة الديار
رئيس مجلس الإدارة أحمد عامررئيس التحريرسيد الضبع

الحرب الروسية على أوكرانيا توقظ العقيدة العسكرية الألمانية مجددا

جندي الماني
جندي الماني

أدت الحرب الروسية على أوكرانيا إلى تغييرات كبيرة حول العالم، لكن ألمانيا تحديداً شهدت تغييراً جذرياً يتمثل في تحويل بوصلة برلين من التركيز على الاقتصاد فقط إلى إيقاظ العقيدة العسكرية.

كان الهجوم الروسي على أوكرانيا، الذي تصفه موسكو بأنه عملية عسكرية خاصة بينما يصفه الغرب بأنه غزو قد بدأ منذ 6 أشهر محدثاً زلزالاً سياسياً وعسكرياً واقتصادياً هو الأكثر عنفاً في أوروبا والعالم، منذ انتهاء الحرب العالمية عام 1945.

وخرجت ألمانيا، تحت قيادة الزعيم النازي أدولف هتلر، من الحرب العالمية الثانية مهزومة ومحطمة، وانتهى الأمر بتقسيمها إلى ألمانيا الشرقية التابعة للمعسكر الشرقي بزعامة الاتحاد السوفييتي، وألمانيا الغربية التابعة للتحالف العسكري الغربي (الناتو) بزعامة الولايات المتحدة الأمريكية

بعد انهيار وتفكك الاتحاد السوفيتي، تم هدم سور برلين الفاصل بين الشطرين الشرقي والغربي من ألمانيا وأعيد توحيد ألمانيا مرة أخرى. أصبحت برلين قوة رئيسية مؤثرة داخل الاتحاد الأوروبي، ونما الاقتصاد الألماني بسرعة لتصبح البلاد القوة الاقتصادية الأكبر داخل القارة العجوز.

ونظراً لماضيها النازي المقلق غاب البعد العسكري، أو كاد، عن مسيرة النمو الألماني، واحتل الاقتصاد العنوان الأبرز في حياة الحكومات والشعب، حتى فجر يوم 24 فبراير الماضي، عندما أعلن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين انطلاق العملية العسكرية الخاصة داخل أوكرانيا.

نعم، لم تعد الأمور في القارة العجوز، ولا حتى حول العالم، كما كانت عليه قبل تلك اللحظة، وتغير كل شيء تقريباً، لكن التغيير في ألمانيا بالتحديد جاء جذرياً وسريعاً وغير متوقع على أقل تقدير.

فقبل حتى أن تبدأ المقاتلات الروسية عملها في ضرب البنية التحتية العسكرية لأوكرانيا، تمهيداً لدخول طوابير المدرعات الطويلة لتطويق العاصمة كييف والمدن الرئيسية، كانت ألمانيا قد اتخذت قراراً بدا غير مرجح قبل أيام قليلة. إذ أعلن المستشار الألماني أولاف شولتز تعليق العمل بخط أنابيب نوردستريم2 لنقل الغاز الروسي إلى ألمانيا، وكان ذلك يوم 22 فبراير كرد فعل على إعلان الرئيس الروسي ، الأحد 21 فبراير 2022، الاعتراف باستقلال لوغانسك في إقليم دونباس الأوكراني.

خط أنابيب "نورد ستريم 2" لنقل الغاز عبارة عن مشروع البنية التحتية للطاقة الذي تم الترويج له منذ فترة طويلة، والذي تسبب في إحداث شرخ عميق بين ألمانيا والولايات المتحدة، وكان يعتبر الخط شرياناً حيوياً لمبيعات الغاز الروسي نحو أوروبا.

بعد توحيد ألمانيا بشطريها الشرقي والغربي، قبل نحو ثلاثة عقود، أصبحت العقيدة السياسية للبلاد تحمل عدداً من المحرمات، من أبرزها عدم التدخل في مناطق النزاعات أو إرسال أسلحة لأي من طرفيها. وأصبح العمل السياسي الألماني بأغلب أشكاله ينطلق من تحت عباءة الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو.

لا تمتلك ألمانيا مقعداً دائماً في مجلس الأمن، وغالباً ما يكون موقفها متسقاً مع حلفائها فيما يتعلق بالصراعات حول العالم. وفي هذا الإطار تمتعت ألمانيا بعلاقات ممتازة مع دول العالم ومناطقه المختلفة، حيث يكون الاقتصاد عادة هو المحرك الأول والأخير لقرارات برلين.

وأبرز مثال على ذلك كان قضية الاعتماد على الغاز الروسي، التي أغضبت واشنطن حتى وصلت الأمور إلى ما يشبه القطيعة، خلال رئاسة دونالد ترامب، الذي أراد أمرين رئيسيين من المستشارة السابقة، أنجيلا ميركل، أولهما زيادة الانفاق العسكري لبرلين، ليصل إلى 2% على الأقل من إجمالي الناتج المحلي للبلاد، والثاني خط أنابيب نوردستريم2.

ورغم رحيل ميركل وترامب، فإن أسباب الخلاف بين واشنطن وبرلين ظلت قائمة، وإن خفّت حدتها بتولي جو بايدن وشولتز المسؤولية في أمريكا وألمانيا. ظل بايدن يسعى لإقناع شولتز بالتخلي عن خط أنابيب نوردستريم2 دون جدوى، كما ظل الحديث عن زيادة الإنفاق العسكري الألماني يراوح مكانه، رغم تراجع بايدن عن قرار ترامب نقل القوات والقواعد الأمريكية من الأراضي الألمانية.

وهذا الموقف الألماني والعقيدة السياسية لم يكن من فراغ بطبيعة الحال، إذ تسببت حربان عالميتان ودكتاتوريتان خلال القرن العشرين في كسر الثقة بين المجتمع الألماني وكل ما له علاقة بالعسكر، بحسب تقرير لموقع دويتش فيله الألماني، يرصد التغير الجذري الذي طرأ على ألمانيا بعد 6 أشهر من الحرب الأوكرانية.

كان شولتز قد أعد الأرضية لهذا التحول الجوهري، فبعد ثلاثة أيام فقط من الهجوم الروسي على أوكرانيا، أي يوم 27 فبراير، وفي خطاب تأسيسي حظي باهتمام كبير، لم يتحدث المستشار عن نقطة التحول فحسب، بل استخلص أيضاً عدداً من الاستنتاجات، أهمها ضرورة إعادة الاعتبار للجيش الألماني المُهمل منذ عقود، بإنشاء صندوق خاص بقيمة 100 مليار يورو لتمويل المشتريات العاجلة.

المستشار وعد أيضاً بالالتزام بما أكد عليه حلف الناتو عام 2014، بعد ضم روسيا لشبه جزيرة القرم، ويتعلق برفع ميزانية دفاع الدول الأعضاء إلى ما لا يقل عن 2% من الناتج المحلي الإجمالي. وهذا ما جعل ميزانية التسلح الألمانية الأعلى في أوروبا.

المستشار شولتز وعد أيضاً في خطابه بالدفاع عن كل شبر من أراضي دول الحلف الأطلسي،تحطيم المقدسات التطبيع مع الجيش الألماني

الخبير الأمريكي جوزيف برامل في حوار مع الموقع الألماني، بمناسبة مرور 6 أشهر من الحرب، أوضح أن كلمة "Zeitwende تسايتفينده" في خطاب شولتز، ومعناها في الألمانية تحول مفصلي وجوهري، أثارت انتباه صناع القرار في واشنطن.

لقد اتخذت برلين قراراً جعل الأمريكيين سعداء، خاصة أن الأمر يتعلق باستثمار كبير بشراء طائرات مقاتلة من طراز إف.35 المكلف للغاية. وهذا معناه أن ألمانيا ستظل ولعقود من الزمن تعتمد من الناحية التكنولوجية العسكرية على أمريكا بحسب برامل.

ائتلاف "إشارة المرور" الحاكم في برلين، والمكون من الحزب الاشتراكي الديمقراطي وحزبي الخضر والليبرالي، لم يتسلم مهامه بعد الانتخابات إلا في ديسمبر، تحت شعار الجرأة على مزيد من التقدم، لكن الحرب وأزماتها أجبرت الحكومة منذ ذلك الحين على التضحية بعدد من القناعات الحزبية والوعود الانتخابية على مسلخ السياسة الواقعية.

فقد اضطر روبرت هابيك، وزير الاقتصاد وحماية المناخ حزب الخضر، إلى إعادة تشغيل محطات الطاقة المغلقة التي تعمل بالفحم، بسبب تقييد إمدادات الطاقة من روسيا. وهذا ما يمثل في حد ذاته تكسيراً لأحد محرمات حزب الخضر بسبب انبعاثات ثاني أكسيد الكربون.

وقد يضطر هابيك، وهو الذي يشغل أيضاً منصب نائب المستشار إلى تمديد زمن تشغيل محطات الطاقة النووية. ويتعلق الأمر بثلاثة مفاعلات كان من المقرر إغلاقها نهاية العام كجزء من التخلص التدريجي من الطاقة النووية، وهي قضية في قلب برنامج حزب الخضر.

والآن، ينتظر الحزب الاشتراكي الديمقراطي الذي يترأس الائتلاف الحكومي من أعضائه أن يفعلوا ما لا يمكن تصوره منذ وقت ليس ببعيد. ففي خطاب ألقاه نهاية يونيو لم يكتفِ لارس كلينغبايل، الرئيس المشارك للحزب، بالدعوة إلى قيادة ألمانيا لأوروبا، حيث قال بصراحة بالنسبة لي، تعني سياسة السلام أيضاً اعتبار القوة العسكرية كأداة سياسية مشروعة.