محمد صِديق المنشاوي.. نفحات السماء إلى أهل الأرض
الديار- صلاح حسن رشيد
"عاش للقرآن، ومع القرآن متدبِّرًا عاملًا به، فكان ربيبه، وسميره، وصاحبه في كل الأوقات. جمع مع سِحر الصوت، روعة الأداء، ومزامير داود، والمهارة في استعراض القراءات القرآنية وكأنها تتنزَّل على مَنْ يسمعها من حنجرته الماسية الخاشعة". العلّامة الدكتور الطاهر أحمد مكي رائد الأندلسيات وعميد الأدب المقارن رحمه الله.
"هذا كروان الإذاعة، وبلبل التلاوة والقراءة، و(زرياب) القراءات، و(مَعْبَد) النغم والمقامات، و(محمد رفعت) الجديد في فتوته وشبابه" العلّامة الدكتور حسين مجيب المصري عميد الأدب الإسلامي المقارن رحمه الله.
مَنْ استمع إلى قراءاته؛ ظنَّه سيدنا عبد الله بن مسعود في جمال صوته، وروعة عرضه! لا؛ بل زاد؛ فتصوَّره سيدنا داود عليه السلام .. يُرتِّل مزاميره الشهيرة؛ فتتكالبُ عليه الإنس، والجان، والطيور، والكائنات جميعًا تاركةً أشغالها وحيواتها من أجل هذا الصُّداح الساحر، وهذا النَّغم الخلّاب الملائكي الفريد القشيب.
"خذوا القرآن مِمَّنْ إذا سمعتموه يقرأ حسبتموه يخشى الله".
تنطبق تلك العبارات على القارئ الشيخ الخاشع البكّاء الفذ محمد صديق المنشاوي (1920- 1969م) الذي مازال يحتل أعلى مكانة في دولة التلاوة والتجويد حتى الآن.
وتمر اليوم ذكرى وفاته (53)، وهي مناسبة مهمة لاستعراض حياته وطريقته في القراءة، ومشواره مع كتاب الله.
فقد كان يقرأ بتلقائيةٍ، وانسيابيةٍ، وعذوبةٍ، وسهولةٍ، ومهارةٍ، وتدفُّقٍ، ومعايشة لِما يقرأه، وحبورٍ وسرورٍ، وتألُّقٍ، وتأنُّقٍ، ما شهدنا له مثيلًا بين القدماء ولا المحدثين معًا.
كانت كوكب الشرق أُم كلثوم معجبةً جدًّا بجمال صوته، وعذوبة حنجرته، وسهولة تأديته للمقامات والنغم والقراءات بعفويةٍ تامةٍ، واقتدارٍ عظيم.
ذات مرة، قال العلاّمة رزق خليل حبَّة -شيخ عموم المقارئ المصرية: "عندما أستمع إلى الشيخ "الحصري" أتذكَّر ابن مسعود، وهو يقرأ القرآن على رسول الله، فسأله أحدهم عن الشيخ المنشاوي؟ فقال: هذا جبريل يا سيدي".
وقد سُئِلَ الشيخ الشعراوي- عن رأيه في صوت القارئ محمد صديق المنشاوي؛ فقال: من أراد أن يستمع إلى خشوع القرآن فليستمع لصوت المنشاوي. إنه ورفاقه الأربعة (مصطفى إسماعيل، وعبد الباسط، والبنَّا، والحصري) يركبون مركباً، ويُبحرون في بحار القرآن الزاخرة، ولنْ تتوقف هذه المركب عن الإبحار والإدهاش .. حتى يرث الله الأرض ومن عليها".
وقال خبراء الأصوات: إذا كان الشيخ مصطفى إسماعيل أعظم من جوّد القرآن؛ فإنَّ المنشاوي أعظم من رتَّله لِتميزه بعذوبة صوته، وخشوعه في القراءة، وانفعاله بجلال القرآن ورهبته، وإجادة المقامات، لاسيما مقام "النهاوند" الذي أبهر المستمعين حتى لُقِّبَ بصاحب "الصوت الباكي".
قال عنه الموسيقار محمد عبد الوهاب: في تقديري، إنه يمكن التعليق على أيّ قارئ من القرَّاء؛ إلاَّ (المنشاوي) الذي يمثِّل حالة استثنائية، يحار أمامها الذائق الفَهِمِ، فمن يتأمَّل مخارج الحروف عنده يصعب أنْ يجد لها وصفًا، وذلك لِمَا منحه الله من حنجرة رخيمة، ونبرة شجية تلين لها القلوب والجلود معاً.
ويتجلَّى ذلك عند ختامه للتلاوة، فتراه يستجمع كل إبداع التلاوة في آخر آيتيْن، بحيث يجعلك تعيش معه أشدّ لحظات الخشوع على الإطلاق! وما عليك إلاَّ أن تتأمل استرساله ما بين السرعة والتلقائية العجيبة، كما في سورة الإسراء، وبين الهدوء وخفض الصوت كما في سورة العلق، عند قراءته (كلاَّ إنَّ الإنسان ليطغى أنْ رآه استغنى، إنَّ إلى ربك الرجعى).
وقال عنه الأديب محمد القوصي: إنَّ الشيخ المنشاوي أغلقَ بابَ تلاوة القرآن من بعده؛ فلا يستطيع أحدٌ من القُرّاء أن يقتربَ من أدائه الفريد، ومن صوته الملائكي.
في حقبة الأربعينيات؛ طلب الملك فاروق من الشيخ محمد صديق المنشاوي أن يكون قارئ القصر الملكي، فاشترط على الملك أن تُغلَق المقاهي وتتوقف عن تقديم المشروبات، اعتبارًا من الساعة الثامنة مساءً وقت إذاعة القرآن الكريم -والذي كانت تنقله الإذاعة من القصر الملكي- قائلاً للملِك: إنَّ للقرآن جلاله فهو كلام الله، ولا يجب أن ينشغل الناس عنه وقت تلاوته بالسؤال عن المشروبات ولهو الحديث. فقال الملك: ذلك يعني أن نكلِّف حارسًا على كل مقهى، وهذا أمر يتعذر علينا، فقال الشيخ: كذلك فهذا أمر يتعذَّر علينا أيضًا، وتلا قوله تعالى" وإذا قُرِئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون".
وذات مرة؛ وجَّه أحد الوزراء دعوة للشيخ المنشاوي لحضور مناسبة دينية، قائلًا: سيكون لك الشرف الكبير بحضورك هذا الحفل الذي يحضره الرئيس عبد الناصر، فردَّ الشيخ قائلاً: ولماذا لا يكون هذا الشرف لعبد الناصر نفسه أن يستمع القرآن بصوت المنشاوي؟ ورفض أن يلبِّي الدعوة، وقال: لقد أخطأ عبد الناصر حين أرسل إليَّ أسوأَ رسله، ومع ذلك فقد كان -الشيخ- شديد التواضع، وكثيرًا ما كان يتحرر من عمامته، ويرتدي جلبابًا أبيض وطاقية بيضاء فوق رأسه، ويجلس أمام باب بيته.
وذات مرة، جاء إليه أحد الشبان الأقباط - وكان من جيران الشيخ - واقترب من الشيخ ولم يعرفه، ظنًّا منه أنه البوَّاب وقال له: لوْ سمحت يا عمِّ، أين الشيخ محمد صديق، فنظر إليه الشيخ، وقال: حاضر يا بنيّ، انتظر حتى أرسله إليك ولم يقل له: أنا الشيخ حتى لا يضعه في حرج ثمَّ صعد الشيخ إلى شقته، وارتدى العِمَّة والقفطان والنظّارة، ثم نزل إليه، وسلَّم عليه، وقال له: مَن الذي سأل عني؟
هذا، وقد نَبَتَ الشيخ المنشاوي نباتًا حسنًا بمدينة (المنشاة) بسوهاج بصعيد مصر، وأصبح أشهر تلامذة (المدرسة المنشاوية) بلْ زعيم تلك المدرسة؛ التي وضع والده أساسها، وتخرج فيها عمالقة التلاوة، كشقيقه الأصغر الشيخ محمود صديق؛ الذي يقول عن أخيه: "المرحوم الشيخ محمد كانت له عندي منزلة خاصة، حيث كان لي بمثابة الأب بعد وفاة والدي، وما تعلمته منه امتدادًا لِمَا تعلمته من والدي، وإنْ كان بأداء مختلف".
وكان كريمًا ودودًا؛ يحب البسطاء والمحتاجين، ويتحبَّب إليهم بالعطايا، ومما يُروَى عنه في هذا الباب؛ أنه في أحد الأيام، أخبر أهله بأنه يريد عملَ وليمةٍ كبيرة؛ على شرف جمعٍ من الوزراء وكبار المسئولين، فتمَّ عمل اللازم، ثمَّ فوجيء أهله بأنَّ ضيوفه كانوا جميعًا من الفقراء والمساكين من أهل البلدة.
أجل، لقد كان الشيخ محمد صِدِّيق –رحمه الله- صديقًا للشيخ عبد الباسط عبد الصمد، وسافر معه للقراءة خارج مصر، وكان كلٌّ منهما مُعجبًا بصوت صاحبه وبأخلاقه العالية. لاسيما أن عبد الباسط قضى شطرًا من طفولته عند آل المنشاوي يدرس القرآن والتلاوة والتجويد والقراءات، لذلك وقع خبر وفاة المنشاوي على مسامع عبد الباسط كالصاعقة.
كان المنشاوي يعشق صوت الشيخ محمد رفعت، ويطرب كثيرًا لأداء الشيخ طه الفشني- لاسيما صوته المتميز في الابتهالات والتواشيح الدينية، وكثيرًا ما كان يتصل به ويلتقيان؛ ليقف معه على مواطن الجمال الموسيقي في صوته.
وعلى الرغم من أن الشيخ (محمد صديق) هو ابنٌ بار، وتلميذٌ نجيب لوالده الشيخ صديق المنشاوي الكبير؛ وكان أُعجوبةً في مدرسة القراءة والتلاوة والتجويد، إلاّ أنَّ بدايته مع الإذاعة جاءت متأخرة، خاصة إذا علمنا أن الإذاعة المصرية كانت تبحث عن المواهب الواعدة في التلاوة آنذاك! لكن شاء الله –سبحانه- أن تظهر هذه الموهبة، وتستمتع الدنيا بهذا الأداء العذب .. ففي شهر رمضان المعظم في عام 1953م؛ كانت الإذاعة تسجّل من مدينة (إسنا) بالصعيد الجُوّاني، وكان الشيخ محمد صدِّيق فارس الحفل؛ فعلمتْ الإذاعة به، وقررت أن تضمه إلى كوكبة القراء المشاهير لديها. لكنهم طلبوا منه أن يتقدّم بطلب للإذاعة؛ حتى يُعقدَ له اختبارٌ، كما تفعل مع سائر القرّاء عند اختيارهم؛ فإذا بالشيخ محمد- يرفض هذا المطلب، قائلاً: أنا لا أريد القراءة بالإذاعة، فلستُ في حاجة إلى شهرتها، ولا أقبل أن يُعقَد لي هذا الاختبار أبدًا ... فما كان من مدير الإذاعة؛ إلاَّ أن أمر بأنْ تنتقل الإذاعة إلى حيث يقرأ الشيخ، فسجَّلوا له عددًا من التسجيلات، فاعتمدته الإذاعة على الفور، وتعدّ هي المرة الوحيدة التي انتقلت فيها الإذاعة بكل معداتها وطواقمها ومهندسيها، لتسجِّل لأحد القرّاء، وتُجيزه بلا امتحانٍ ولا اختبار.
والحمد لله؛ فالشيخ محمد صِدِّيق- كان خير سفير للقرآن الكريم، فقد سافر به إلى العديد من البلدان العربية والإسلامية، ونال حظًا واسعًا من التكريم والتبجيل؛ فمنحته إندونيسيا وساماً رفيعاً، وذلك في منتصف الخمسينيات، كما حصل على وسام الاستحقاق من الدرجة الثانية من الجمهورية السورية عام 1956م، واحتفتْ به الجماهير المسلمة في الأردن، والكويت، والعراق، والسعودية، وليبيا، وباكستان، وغيرها. وترك أكثر من مائة وخمسين تسجيلاً بالإذاعة المصرية والإذاعات الأخرى، كما سجَّل ختمة قرآنية مرتلة كاملة تُذاع بصفة دائمة بإذاعة القرآن الكريم بالقاهرة. كما عيَّنته وزارة الأوقاف قارئاً بمسجد الزمالك، وظل قارئاً لسورة الكهف به حتى توفاه الله. لكن الشيخ لمْ يعِش طويلاً، إذْ تُوفِّي وهو في الأربعينيات من عمره، وصعد إلى أعلى علِّيين مع مَهَرة التلاوة والتجويد والقراءات.