رؤية .. عظمة الإنسان تظهرها المحن
إن عظمة الإنسان تظهرها الأيام والمحن أكثر مما تظهرها حالات الرخاء، ومن يكبر على الآلم منطلقا من إيمانه يكبر فى عين زمانه.
عندما نخرج من كل محنه - مهما كانت نهايتها سلبا أو إيجابا، ونحن واقفون على قمة ثباتنا، أو على حد سيف ... تتقزم المحنة ويتعملق الثبات ... وتنتفض أرواحنا من جديد جاعلة من أوجاعنا مشعلا يضىء عتمة الضعف، محولة اياه إلى فهم يفسر "وماذا بعد ذلك؟".
لابد أن تكتسح الأحزان المفاجئة أو المتوقعة، تلك المنطقة المرهفة الحساسة الإنسانية فينا بين الحين والأخر، لكننا فى نفس الوقت الذى نتركها تتسرب فينا فتسقط دموعنا وتمزق قلوبنا .. علينا أن نكون فى حالة تهيئة لبذرة إشراق مستعدة لإحتواء الغصة.
نعم أنا أعلم أن الأحزان لا تـُقتل، ولا تـُطرد، ولا نهرب منها بسهولة، لكننا يمكن أن نصفها بجمالية تفوق قهققة الفرح.
والسؤال أين بذرة الإشراق تلك؟ .. إنها فى كثير ممن حولنا، وفى الكثير مما بداخلنا ..إنها حتى فى رؤية نملة توفق فى التقاط حبة قمح لتهرب بها إلى مخبئها .. فى موجة تأخذ مداها دون جذر يقمعها.
عندما يقتحمنا الهجير .. لا يكفى أن نصرخ منه، بل لابد من إيجاد الظل، والظل لا يأتينا، بل نفرشه من دواخلنا بأيدينا، بأحلامنا، بتبسيط شدة الحريق، كأولئك الذين يرقصون على الجمر ويخرجون منه دون أى أثر لحرق، هؤلاء يفعلون ذلك بقوة داخلية، بتمرد على الألم، بمطاطية تملّسهم مع الصدمة.
إن الرهان الأجدر الذى يدخله العظماء، هو الذى يخرجون منه عظماء، رهان الحياة، طالما هناك إمكانية للوجود، ورهان الموت، ونحن نلتفت صوب الحياة.
وليس وجود الآخرين بيننا أهم من تواجدهم فى أعماقنا، فكم من مجاورين نغيبهم، وكم من غائبين نستحضرهم ليملأوا كياننا، لذلك لا نحس غيابا أو وهم غياب، وما سيؤلم هو رد الفعل المباشر للغائب، وعندما نصل فى يقيننا إلى مرتبة التماهى بالموجد، نتقبل أحكامه لأنها بالتالى أحكامنا كجزء متماه بالكل أو بالجوهر.
وفى النهاية .. إن لكل غد غد، فالمتتاليات تحتم تتالى الظلمة والنور، ومن المهم أن نجعل أوجاعنا تنتهى بأسرع مما تبدأ بدفعها وإعطاء الصرخة مداها لئلا يرتد صداها إلى فرح الغد.
أخر الكلام لمحمود درويش:
للحقيقة وجهان، والثلج أسود فوق مدينتنا
لم نعد قادرين على اليأس أكثر مما يئسنا،
والنهاية تمشى إلى السور واثقة من خطاها
فوق هذا البلاط المبلل بالدمع .. واثقة من خطاها
من سيُنزل أعلامنا: نحن، أم هم؟ ومن
سوف يتلو علينا "معاهدة الصلح"، يا ملك الاحتضار؟
كلّ شىءٍ مُعَدّ لنا سلفاً، من سينزعُ أسماءنا
عن هويّتنا: أنت أم هم؟
ومن سيدفن أيامنا بعدنا : أنت أم هم؟ ومن
سوف يرفع راياتهم فوق أسوارنا: أنت... أم
فارسٌ يائسٌ؟ من يعلّق أجراسهم فوق رحلتنا
أنت... أم حارسٌ بائسٌ؟ كلّ شىءٍ معد لنا
فلماذا تطيلُ النهاية، يا ملك الاحتضار؟.