جريدة الديار
الإثنين 25 نوفمبر 2024 09:48 صـ 24 جمادى أول 1446 هـ
بوابة الديار الإليكترونية | جريدة الديار
رئيس مجلس الإدارة أحمد عامررئيس التحريرسيد الضبع

ذكرى عبد الرحمن بدوي… حين أنجبت مصر فيلسوفا وجوديا!

عبد الرحمن بدوي
عبد الرحمن بدوي

يعد أحد أبرز أساتذة الفلسفة العرب في القرن العشرين، والقول إنه أستاذ وحسب قد يكون مجحفا في حقه؛ فالرجل كان أكثر من ذلك فيلسوفا. نعم، فقد لقبه البعض بـ”الفيلسوف الوجودي العربي”، كيف لا؟ وهو الذي أغنى الخزانة العربية بأزيد من 150 عملا، ما بين التأليف والترجمة والتحقيق… غزارة إنتاج لم تأت قط، بحسب الباحثين، على حساب الكيف. في هذا البورتريه، نتذكر الفيلسوف المصري عبد الرحمن بدوي!

رأى عبد الرحمن بدوي النور فجر الـ4 من فبراير/شباط 1917، بقرية في مصر تدعى شرباص، تقع جنوب محافظة دمياط… نشأ وسط عشرين أخا وأختا، وكان ذلك تعويضا “هائلا” لجده، الذي لم ينجب سوى والده.

يقول في مذكراته التي نشرها بداية هذه الألفية: “بالصدفة أتيت إلى هذا العالم”؛ فقبل أربع سنوات من ميلاده، أفلت أبوه الذي كان عمدة القرية، بأعجوبة، من محاولة اغتيال.

ومع أن أسرة بدوي وجيهة، ولها من محاصيل الزراعة ما يؤمن لها رغد العيش، إلا أنه أبدى منذ باكر عمره اهتماما قل نظيره بالدراسة والتحصيل العلمي.

“كنا نحسن النحو والصرف ونقرأ النصوص الأدبية من شعر ونثر… واستطعنا حفظ وفهم روائع من القصائد والخطب والرسائل التي تعد من غرر الأدب العربي”، كتب بدوي يؤرخ لدارسته الابتدائية، مضيفا في استنكار: “فأين هذه النصوص الرائعة الجزلة من النصوص الغثة التافهة التي يقرؤها تلاميذ المدارس اليوم في مصر؟”. اقرأ أيضا: محمد عابد الجابري… المفكر الذي وضع العقل العربي على مشرحة النقد 2/1 نال بدوي شهادة إتمام الدراسة الابتدائية عام 1929، ثم انتقل إلى ثانوية في القاهرة، وحدث أن التقى في قسمها الداخلي بمدرس جغرافيا عائد من إنجلترا، سمح له بالاستفادة من مكتبته الخاصة؛ فكانت هذه الفرصة فارقة في حياته.

ثم عام 1934، حصل بدوي على شهادة الباكالوريا، بل وحاز الرتبة الثانية على جميع طلاب القسم الأدبي بمصر. كان والد بدوي يأمل أن يدرس ابنه الحقوق في الجامعة، ذلك أنه تخصص يصل بخريجيه إلى المناصب العليا في البلد. لكن الابن اختار دراسة الفلسفة… درس الفلسفة على يد مفكرين وفلاسفة كبار، أمثال الفيلسوف الفرنسي أندريه لالاند، والفيلسوف الألماني ألكسندر كويريه، والمفكر المصري مصطفى عبد الرازق. أثناء دراسته الجامعية، ابتعث لأربعة أشهر بإيعاز من طه حسين إلى ألمانيا وإيطاليا ليتقن لغتي البلدين… ثم عام 1938، نال إجازة الآداب من قسم الفلسفة بكلية الآداب بالقاهرة، بل وحاز الرتبة الأولى هذه المرة، لا على قسم الفلسفة فحسب، إنما على الكلية كلها. حاول بدوي في غضون هذه السنين أن يدخل غمار السياسة، فكان ذلك من خلال حركة “مصر الفتاة”، ثم لاحقا انخرط في “الحزب الوطني الجديد”؛ بيد أن الملاحقات البوليسية وبطش السلطة السياسة، دفعاه إلى النأي عن السياسة والتفرغ النهائي للبحث العلمي. على كل حال، نظير تخرجه بامتياز، عين معيدا (باحثا) بجامعة القاهرة بتشجيع من طه حسين ومصطفى عبد الرازق… هكذا، أول إنتاجات بدوي الفكرية كان كتاب “نيتشه” الذي نشره عام 1939، بهدف إحداث ثورة روحية في الفكر العربي، يقول في مذكراته.

حقق الكتاب نجاحا باهرا، ثم تلاه كتاب “التراث اليوناني في الحضارة الإسلامية”، قبل أن يناقش رسالة الماجستير عام 1941، وبعدها أطروحة الدكتوراه عام 1944 في موضوع “الزمان الوجودي”. يومها، قال طه حسين وهو يناقش أطروحة بدوي: “لأول مرة نشاهد فيلسوفا مصريا”.

بعد أن صار دكتورا في الفلسفة، عين بدوي مدرسا بقسم الفلسفة بجامعة القاهرة، عام 1945.

ثم ما لبث أن ترقى أستاذا مساعدا في ذات القسم والجامعة عام 1949. سنة بعد ذلك، ترك بدوي جامعة القاهرة ليقوم بإحداث قسم للفلسفة بكلية الآداب في جامعة عين شمس، ثم عام 1959 أصبح أستاذ كرسي. لولا أعماله لربما كان قد نسي… عام 2002، سقط بدوي مغشيا عليه في أحد شوارع باريس؛ إذ أصابته وعكة صحية حادة، فحمل إلى المشفى دون أن يعرفه أحد.

اتصل الطبيب الفرنسي بالقنصلية المصرية، يخبرهم أن مريضا أمامه يقول إنه فيلسوف مصري. يجدر الذكر هنا أن بدوي اختير ضمن 50 شخصية لتشكيل لجنة كلفت بكتابة دستور 1953 في مصر، والذي أهمل في النهاية واستبدل بدستور 1956.

غادر بدوي إلى فرنسا عام 1962، كرد فعل على تجريد ثورة 23 يوليوز (انقلاب الضباط الأحرار) عائلته من أملاكها. صحيح أنه استقر في باريس، لكنه اشتغل مع ذلك أستاذا في جامعات عديدة عبر العالم: فرنسا، ليبيا، لبنان، إيران، الكويت… أتقن بدوي 9 لغات، واستطاع أن يقرأ ويدرس بها أمهات كتب الفلسفة باللغات الأصلية التي كتبت بها… استطاع بها أيضا أن يترجم بعضا من هذه الكتب؛ فمثلا، هو أول من نقل أعمال الفيلسوف الألماني مارتن هايدغر إلى العربية.

ومع أن أكثر ما استهواه كان الفلسفة الوجودية حتى لقب بـ”الفيلسوف الوجودي العربي”، إلا أن بدوي كرس حياته للفكر بشتى تصنيفاته. كان غزير التأليف، حيث تتضارب تقديرات عدد مؤلفاته بين الـ150 و200 مؤلف.

أعمال نقرأ من بينها: “الأخلاق عند كانت”، “الإنسانية والوجودية في الفكر العربي”، “الأصول اليونانية للنظريات السياسية في الإسلام”، “الفلسفة والفلاسفة في الحضارة العربية”، “دراسات في الفلسفة الوجودية”… وهذه الأعمال، كما أشرنا، مجرد قطرة في بحر مؤلفات بدوي. لولا أعماله لربما كان قد نُسي… عام 2002، سقط بدوي مغشيا عليه في أحد شوارع باريس؛ إذ أصابته وعكة صحية حادة، فحمل إلى المشفى دون أن يعرفه أحد. اتصل الطبيب الفرنسي بالقنصلية المصرية، يخبرهم أن مريضا أمامه يقول إنه فيلسوف مصري. عاد حينها بدوي إلى بلاده، مصر… وبعد أربعة أشهر، تحديدا في الـ25 من يوليوز/تموز 2002، ترجل عن صهوة الحياة بمستشفى معهد ناصر بالقاهرة، عن عمر يناهز 85 عاما.

اقرأ أيضا تعرف على إسماعيل الصفوي مؤسس الدولة الصفوية