جريدة الديار
الخميس 28 مارس 2024 04:41 مـ 18 رمضان 1445 هـ
بوابة الديار الإليكترونية | جريدة الديار
رئيس مجلس الإدارة أحمد عامررئيس التحريرسيد الضبع

صـلاح الإمـام  يكتب عن الأميرة قطر الندى



تنسب الدولة الطولونية فى مصر إلى أحمد بن طولون ، وهو من أصل تركى، حيث كان والده من بلاد تركستان ـ الواقعة ضمن الأراضى الروسية الآن ـ وكلمة "طولون" تعنى بالتركية "البدر الكامل" ، وكان طولون ـوالد أحمد ـرئيساً لحرس الخليفة العباسى محمد المعتصم بالله بن هارون الرشيد الذى حكم من عام 833 حتى عام 842م.


وقد ولد أحمد بن طولون فى بغداد عام 835 م، ثم انتقل مع والده بعد ذلك بعام إلىالمقرالجديد للخلافة العباسية فى "سامراء" التى أنشأها الخليفة المعتصم وجعلها عاصمة لملكه.
وتعلم أحمد بن طولون فى مدارس سامراء العلوم الإسلامية والعسكرية، ونال حظاً وفيراً من العلم ، ورحل والده عن الدنياعام 854م.


كان بنو العباس قد اعتادوا على إقطاع مصرللقادة الأتراك محل ثقتهم، وكان من عادة القائد التركى الذى تكون مصر من نصيبه أن يبقى فى عاصمة الخلافة ويرسل نائباً عنه لإدارة شئون مصر.
وفى عام 868م أنعم الخليفة العباسى الثالث عشر "المعتز بالله بن المتوكل على الله" على أحد قادته الأتراك بإقطاعه مصر، وكان هذا القائد المسمى "باكباك" من أفضل القواد الترك فى ذاك الحين ، وكان متزوجاً فى نفس الوقت من والدة أحمد بن طولون منذ وفاة والده ، وبالتالى وقع اختيار باكباك علىأحمد بـن طولون ليكون نائباً عنه فى إدارة حكم مصر ، وحدث أن غضب الخليفة على باكباك فأمر بضرب عنقه، وآلت إقطاعية مصر إلى القائد التركى "يارجوخ" وكان والد زوجة أحمد بن طولون ..


وهكذا خدمت الأحداث أحمد بن طولون، وكانت فى صالحه على طول الخط ، وساعده يارجوخ على إطلاق يده فى مصر،  ولما توفى يارجوخ عام 873م بسط أحمد بن طولون نفوذه على مصر، وأعلن نفسه أميراً عليها، وكان قد مضى فيها حتى ذاك الحين  خمس سنوات منذ قدومه إليها نائباً عن القائد التركى باكباك عام 868م.


وفى عام 878 توفى " أماجور" والى الشام ، فانتهزأحمد بن طولون الفرصة وسارعلى رأس جيش إلى الشام، ونجح فى إخضاع دمشق له ، ثم خضعت له حماة، وحمص، وحلب.
تمكن أحمد بن طولون من تأسيس أول دولة إسلامية   مستقلة فى مصر، ويعد هذا هو أول استقلال لمصر منذ دخول الرومان لها عام 31 قبل الميلاد، وهو أول من أعاد الشام تحت الراية المصرية منذ عهد الفراعنة.


ولما توفى أحمد بن طولون عام 884م ، خلفه إبنه "خمارويه" الذى حقق انتصارات عظيمة كتلك التى حققها والده، وكانت الخلافة العباسيةمن جانبها تنظر إلى قيام الدولة المصرية المستقلة بعين الحذر، وتخشى أن تغدو منافسا خطرا لها، فلما تولى خمارويه عمد إلى عقد معاهدة صلح مع الخلافة العباسية ببغداد، ولما تولى الخلافة المعتضد بالله سنة 279 هـ (892 م) انتهز خمارويه هذه الفرصة، فبعث سفيره إلى بغداد ومعه تحف وهدايا نفيسة وأموال كثيرة، ليس هذا فقط، بل عرض سفير خمارويه على الخليفة أن يتزوج ولده المكتفى بالله الأميرة قطر الندى ابنة خمارويه، لكن الخليفة عرض أن يتزوجها هو، ووافق خمارويه، وأخذ فى الإستعداد لهذا المشروع الخطير.


   كانت الأميرة المصرية ـ واسمها الحقيقى أسماء ـ وتعرف بقطر الندى، من أجمل نساء عصرها، وأوفرهن سحرا وذكاء وعلما، ولم تكن حين خطبتها للخليفة قد جاوزت الأربعة عشر ربيعا، وقدم لها الخليفة صداقا قدره ألف ألف درهم، وبالرغم من ضخامة هذا الصداق فى ذاك العصر، فإنه يعتبر جزء يسيرا مما أنفقه والدها، على تجهيزها من الأموال الطائلة، فقد أراد خمارويه أن ينافس الخلافة فى مظاهر غناها وبذخها، ويقدم لنا مؤرخو هذا الزمن تفاصيل مدهشة لايكاد يصدقها عقل عن جهازها، فمن ذلك: أريكة أربع قطع من الذهب، عليها قبة من ذهب مشبك، فى كل عين من التشبيك قرط معلق فيه حبة جوهر لايعرف لها قيمة، وقد قيل أنه أنفق على تجهيزها مايساوى ميزانية دولة بالكامل ، حتى أن البعض قال بأن موافقة الخليفة العباسى على هذا الزواج كانت بهدف إفقار الدولة الطولونية لعلمه بما يتميز به خمارويه من بذخ.


   ولم يقف هذا البذخ على تجهيز الأميرة فقط، بل اقترنت به صور أخرى من الإغراق الذى لم يسمع به، ذلك أن خمارويه بعد أن فرغ من إعداد الجهاز أخذ فى التأهب لإرسال ابنته إلى زوجها الخليفة، وهنا نستطيع استرجاع قصص ألف ليلة وليلة، لكى نتصور ماأحيطت به رحلة قطر الندى من مصر إلى بغداد من مظاهر الفخامة والترف، فقد أراد خمارويه أن يجعل من تلك الرحلة الشاقة، خلال هذا القفر الشاسع، نزهة ممتعة، فأمر أن يبنى لها على رأس كل منزلة (محطة) فى الطريق بين مصر وبغداد قصرا وثيرا، مجهزا بكل شىء.


   وفى أواخر عام 281 هـ (894 م) خرجت قطر الندى من مصر فى موكب عظيم، وبرفقتها عمتها شيبان، وعدد من الكبراء والحشم، وحسب وصف مؤرخى تلك الفترة، فكانوا يسيرون بها سير الطفل فى المهد، فكانت إذا وافت منزلة وجدت قصرا قد فرش وبه جميع ماتحتاج إليه، فكانت فى مسيرها من مصر إلى بغداد على كثرة المشقة كأنها فى قصر أبيها.


   ووصل موكب الأميرة المصرية إلى بغداد فى فاتحة المحرم عام 282 هـ ، وزفت إلى الخليفة المعتضد فى شهر ربيع الأول من نفس العام، فى احتفالات أسطورية ، أسبغت على مدى أيام على العاصمة العباسية حللا ساطعة من البهاء والمرح، وشغف الخليفة بزوجته الفتية، وسحره جمالها الفاتن، فكانت أحظى نسائه لديه.


   ولم تمض أشهر قلائل على زفاف قطر الندى إلى زوجها الخليفة، حتى قتل والدها خمارويه، وكان قد خرج بعساكر من مصر إلى الشام استعدادا للحرب، ونزل بدمشق، فأقام بها مدة يسيرة، وفى ذات مساء قتله خدمه وهو نائم على فراشه، وذلك فى أواخر سنة 282 هـ ،وذلك بعد حكم دام أكثر من 11 سنة ، وكان موته هو بداية النهاية للدولة الطولونية، إذ تولى إبنه "أبو العساكر" مقاليد الحكم ، لكنه قتل بعد شهور من توليه ، ودبت الفتنة فى الجيش الطولونى ، ثم تولى "هارون" شقيقه -ابن خمارويه - مقاليد الحكم ، وفقدت مصر فى عهده ممتلكاتها فى الخارج ، ودخل هارون فى حرب ضروس مع القرامطة فى الشام، فانتهز الخليفة العباسى الفرصة ليتخلص من الفريقين، فأرسل جيشاً قوى العدة والعدد أوقع بالقرامطة هزيمة شديدة عام 903 م قرب حماة ، ثم عاد نفس الجيش بقيادة محمد بن سليمان لإخضاع مصر ثانية للخلافة العباسية، وتمكن الأسطول البحرى العباسى من هزيمة الأسطول الطولونى فى دمياط، وعسكرهارون بن خمارويه بجيشه فى صحراء الشرقية، لكنه قتل نتيجة خيانة نفر من رجاله عام 904م، وخلفه شقيقه شيبان الذى استسلم لجيش محمد بن سليمان الذى دخل الفسطاط يوم الخميس آخر صفر سنة 292هـ، الموافق 10 يناير عام 905م، معلناً إنتهاء الدولة الطولونية التى لم تستمر أكثر من 38 سنة، وعادت مصرمن جديد لمظلة الخلافة العباسية.


   أما عن الأميرة الجميلة قطر الندى، فقد عاشت بعد وفاة والدها عدة أعوام بقصر الخلافة ، ثم توفيت فى شهر رجب عام 287 هـ ، بعد خمس سنوات فقط من زواجها، وكانت فى فى الثانية والعشرين من عمرها،وهى ماتزال زهرة يانعة فى أوج تألقها، ودفنت بقصر الرصافة ببغداد، ومات الخليفة المعتضد نفسه بعد ذلك بعامين.