أسرار وحكايات .. من زمن فات (8)

مدينة الفسطاط .. وحكاية أطول مدة حريق فى التاريخ
فى عام ٦٤ ميلادية قام الإمبراطور نيرون بحرق روما بهدف إعادة بنائها من جديد بشكل متطور وحضارى وقد إستمر الحريق خمسة أيام متتالية دمر نحو ثلثى تلك المدينة العريقة .. ولا زال التاريخ يذكر هذا الإمبراطور وينعته بالجنون .. أما فى مصر فقد شهدت حريقا أكثر بشاعة من حريق روما حيث دمرت تماما مدينة الفسطاط أول عاصمة إسلامية فى حريق أتى على المدينة بأكملها وظل جانب كبير منها فى حالة دمار شامل لمدة ٨٠٠ عام .. هذا الحريق هو الأبشع حيث إستمر ٥٤ يوما متصلة قام به وزير آخر الخلفاء الفاطميين عام ١١٦٧ ميلادية وذلك لصد العدوان الصليبى على مصر .... وإلى تفاصيل هذا الحادث العجيب !!!
فى نهاية عام ٥٥٥ هجرية / ١١٦٠ ميلادية ومع صعود صبى لم يتجاوز عمره ٩ سنوات إلى عرش الخلافة وهو العاضد لدين الله بدأت شمس الدولة الفاطمية فى المغيب وإتجهت إلى الزوال بعد حكم لمصر تجاوز مائتى سنة ... وإستغل إثنين من الوزراء صغر سن الخليفة وحاول كل منهما السيطرة على مقاليد أمور الدولة .. الأول هو " شاور بن مجيرالسعدى " وزير العاضد لدين الله والمهيمن إلى حد كبير على الحكم والثانى هو " ضرغام أبو الأشبال " أحد كبار رجال الدولة وإستمر الصراع بينهما بضع سنين .. إستعان ضرغام بالصليبيين وهم جماعة من مسيحيى أوروبا وكانوا قد إستولوا على بيت المقدس وأنشأوا عدة إمارات على طول ساحل الشام.
رحب القائد الصليبى " أمورى " ملك بيت المقدس بهذه الإستغاثة خاصة وأنه كانت له أطماع فى الإستيلاء على مصر وعلى الفور أوفد رسولين إلى الخليفة الفاطمى العاضد لدين الله سنة ٥٦٢ هجرية / ١١٦٧ ميلادية ليعقدا معه تحالف يدفع الخليفة بمقتضاه ٢٠٠ ألف دينار عاجلة " أى كاش " ومثلها آجلة نظيردفاع الصليبيين عن مصر ولكن هذا العرض قوبل بالرفض ليس بالطبع من الخليفة الصبى فهو لم يدرك بعد وإنما من الوزير شاور ورجاله .. إشتعل الغضب فى صدر الحاكم الصليبى المتغطرس حين أخبره الرسولان بالرفض وقرر أن يكون على رأس حملة لغزو مصر وإن هناك سبب آخر شجعه على هذا الغزو وهو ما نقل إليه عن طريق الرسولين حول الأبهة والعظمة التى عليها مصر حيث أعجبا بعظمة ما شاهداه خاصة داخل قصر الخليفة أيما إعجاب وقالوا إن مصر هى جنة الرب فى الأرض.
فى عام ٥٦٤ هجرية / ١١٦٨ ميلادية أعد الملك " أمورى " العدة وإتجه على رأس جيش كبير نحو مصر وواصل فتوحاته بدون أدنى مقاومة تذكر حتى وصل إلى بركة الحبش _ منطقة قتادة بالجيزة الآن _ وسيطر القلق على كل قاطنى الفسطاط بإعتبارها الأقرب لبركة الحبش وأيضا سكان القاهرة فأهتدى الوزير شاور إلى فكرة جنونية بسبب قلة حيلته وضعف قوته فأمر الناس بإخلاء الفسطاط تماما والذهاب إلى القاهرة .. وبالفعل إرتحل كل الناس عن الفسطاط بعد أن أخذوا ما خف وزنه وغلا ثمنه.
وبلغت أجرة الدابة من الفسطاط إلى القاهرة نحو ١٢ دينار وأجرة الجمل وصلت إلى ٣٠ دينار ونزلوا القاهرة حيث سكنوا المساجد والتى أصبحت " كامل العدد " فإتجه آخرون إلى سكن الحمامات العامة وغيرهم إفترشوا الأزقة والحوارى والطرقات العامة.
وبعد أن أصبحت الفسطاط خاوية على عروشها أمر شاور بإشعال النيران فيها بالكامل فأحضروا لذلك عشرون ألف قارورة نفط تم توزيعها على كل مكان فى الفسطاط ثم أتوا بعشرة آلاف مشعل وألقوها على مدينة " عمرو بن العاص " فأحرقوها تماما وإرتفع اللهيب إلى عنان السماء فى مشهد رهيب لم تشهده أى دولة فى العالم على مر كل العصور لدرجة أن من يسير بعيدا عن الفسطاط لمدة ثلاث أيام يرى ألسنة اللهب بسبب تلك المحرقة الكبرى التى من شدتها إستمرت ٥٤ يوما متصلة.
وحين رأى القائد الصليبى هذا المشهد المهيب رحل عن مصر وعاد من حيث أتى ثم عاد بعض أهل الفسطاط إلى مدينتهم وعمروا جانب منها ولكن ظل الخراب قائما فى بعض أماكن منها القسم الشرقى للمدينة والذى ظل هكذا على مر الزمن حتى تم إعماره فى عهد الرئيس جمال عبد الناصر.