جريدة الديار
الجمعة 19 أبريل 2024 04:10 مـ 10 شوال 1445 هـ
بوابة الديار الإليكترونية | جريدة الديار
رئيس مجلس الإدارة أحمد عامررئيس التحريرسيد الضبع

في علاقة السّياسي بالثّقافي في الحضارة العربيّة الاسلاميّة

فتحي الحمزاوي
فتحي الحمزاوي

ننطلق من مصادرة أساسيّة باتت حقيقة تاريخيّة ملموسة، هو أنّ التّداخل بين السّياسة والثّقافة في حضارتنا العربيّة الاسلاميّة كان جليّا منذ تداعيات موت الرّسول- صلّى اللّه عليه وسلّم-، وما أعقب ذلك من أحداث دمويّة لاحقا في ما سُمّي بالفتنة الكبرى... ومنذ ذلك الوقت صارت العلاقة بين السّياسة والثّقافة تتردّد بين الصّدام حينا، والمهادنة الظّرفيّة أحيانا أخرى.

وقد حلّل الدّكتور عليّ أومليل طبيعة هذه العلاقة وأشكالها ومساراتها في كتابه الموسوم ب'' السّلطة السياسية والسلطة الثّقافية''، وبيّن من خلال نماذج وأمثلة تاريخية تلك العلاقة منذ حادثة رفع المصاحف على السّيوف في ما يُعرف بحادثة '' التّحكيم'' للفصل في الخلاف بين عليّ بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان.

فقد كانت تلك الحادثة إشارة رمزيّة إلى بداية التباس الدّينييّ – الفكري والثّقافيّ- بالسّاسيّ. وكانت المعركة بين الاتّجاهين تستهدف الاستحواذ على السّلطة بمعانيها المختلفة، وقد وجد الفقهاء أنفسهم أطرافا في صلب هذه المعركة، ويكفي أن نذكّر بموقف أبي حنيفة من الانحياز للعلويين واعتراضه على مبايعة العبّاسيين وما تعرّض له من عقاب أودى بحياته على ما تذكر بعض المصادر التّاريخيّة.

وكذلك تجلّت هذه المعركة جليّة في صراع المعتزلة وأهل الحديث، وتدخّل الخلفاء العبّاسيين في هذا الخلاف، حين وقف المأمون في صفّ المعتزلة وناصرهم طيلة خلافته، وسار على نهجه المعتصم، وكانت في عهده الحادثة التي أفاضت الأقلام وظلّت محلّ حديث العامّة والخاصّة لقرون من الزّمن، وهي حادثة '' محنة أحمد بن حنبل والتي بسببها أعاد الخليفة المتوكّل توزيع الخارطة السياسيّة والدينية بأن أعاد الاعتبار إلى الفقهاء ورجال الحديث، وانتقلت السّلطة الثقافية والدّينيّة إليهم. وظلّت موازين القوى لاحقا تداولا بين التّيّارات الدينية المختلفة وتُدار حسب انتمائات الحاكم أو مدى القدرة على صناعته، ظلّ هذا الوضع على تلك الحال حتّى في مراحل اهتزاز مؤسّسة الخلافة وانقسامها واستقلال بعض الدّويلات عنها.

وقد نشأ في هذه الأحوال السياسية وفي ظلّ هذه الصّراعات السّياسيّة-الثّقافيّة ''أدب سياسيّ'' يتناول بشكل أدبيّ تُميّزه الأساليب البلاغيّة الأنيقة ٍآداب سياسة الملوك وأخبارهم ونوادرهم وسٍيرهم، دون أن ينفصل ذلك عن النّقد الخفيّ، أو التّنظير للسّاسة الرّاشدة وللسّلوك السّياسي المستقيم.

وفي الحقيقة فإنّ الأدب السّياسيّ المُشار إليه، لم يكن مردّه ما ذكرنا من الصّراع بين السّلطتين السياسية والثّقافية فقط، بل يردّه الكاتب عبد المجيد الصّغيّر في كتابه '' الفكر الأصوليّ وإشكاليّة السّلطة في الاسلام'' إلى وضعيّة انقلاب الخلافة إلى ملك ( بتعبير ابن خلدون).

فهذه الظّاهرة حسب المؤلّف المذكور كانت: '' بمنزلة المدخل التّاريخي لبروز الأدب السّياسيّ السّلطانيّ... فقد كان لا بدّ على العرب المسلمين- وقد أصبح نظامهم السّاسيّ ملكا- من التّأثّر بالأنظمة السّياسيّة التي انهدّت تحت ضربات الفتوحات...'

' ويشير المؤلّف إلى موارد هذا الأدب السّياسيّ النّاشئ فيقول إنّ النّظام الفارسيّ كان: '' من أبرز الأنظمة التي ورث العرب تلقائيا أجهزتها وتنظيماتها، إذ كان أوّل المنظومات التي وجدوا فيها صورتهم وضالّتهم لتسيير شؤون الدّولة الوليدة...'' وبالفعل، تكوّن أدب سياسيّ عربيّ اسلاميّ بدت ملامح التّأثيرات الفارسيّة فيه واضحة جدّا.

وقد أُطلق على هذا الأدب عبارة '' الآداب السّلطانيّة'' التي تقوم عادة '' على تصوّر عمليّ للمجال السّياسيّ، كما مثّلت المادّة الثّقافيّة التي يستفيد منها القائمون على شؤون الدّولة. وللبرهنة على هذه الحقيقة التّاريخيّة، يمكن الإحالة على بعض الرّسائل الضّمنيّة التي تضمّنتها محاورات التّوحيدي للوزير ابن سعدان طيلة مسامراته معه.

فقد تضمّن كتاب '' الإمتاع والمؤانسة'' أدبا سياسيّا صريحا تجلّى خاصّة في النّصائح التي توجّه بها هذا الأديب للوزير حول ضرورة اصطناع الرّجال المقتدرين على العمل السّياسيّ، وواجب الرّفق بالرّعيّة وأهمّية الالتزام بالقيم الدينيّة، والاعتبار من تجارب السّابقين، والحذر من الوشاة وأهل الكيد. كما عبّد جسر التّواصل بين الفلسفة والسياسة...

فكان بذلك من أبرز المفكّرين الذين رسّخوا ثقافة '' الأدب السّياسيّ'' في الأدب العربيّ عموما.