جريدة الديار
الخميس 25 أبريل 2024 04:38 مـ 16 شوال 1445 هـ
بوابة الديار الإليكترونية | جريدة الديار
رئيس مجلس الإدارة أحمد عامررئيس التحريرسيد الضبع

حسام أبو سعدة يكتب: التحدى ....

حسام أبو سعدة
حسام أبو سعدة

قرر التحدى منذ أول يوم فى رئاسة قسم الفيزياء بالجامعة. لاحظ نظرات القلق فى عيون صغار الموظفين أثتاء مروره بالممرات.. الترقب.. الحذر.. ربما الذعر مما سيحدث، أما المقربون يشفقون عليه..

أمر باحضار القهوة متجهًا إلى حجرته. إحدى السكرتيرات ارتجفت و تأوهت الثانية و ابتسم فى سخرية..
جلس على المقعد الوثير يتأمل الأثاث الفاخر الأنيق.. صدح الصوت فى داخله: غبى، جاهل، كل من يحرم نفسه من هذه الأبهة دون سبب منطقى..
مدد ساقيه و استرخت كل عضلاته.. رأى فى داخله جنازه مهيبة، رأى جسده محاطًا بالكفن الأبيض يستعد للقاء ربه.. المشيعون كثيرون.. رأى طفليه يبكيان، رأى زوجته تبكى فى حسرة و هى تقول فى ذهول: مصادفة عجيبة، فى أول يوم له فى رئاسة القسم؟!.. يعلم أن زوجته تشبهه، تفكر مثله بطريقة علمية منظمة، ترفض كل أنواع الخرافات.. رأى أيضًا تلميذته الدكتورة "سعاد"، لمح فى عينيها التشفى و السخرية و هى تهمس لمن حولها: إنسان مغرور متكبر، يعتقد أنه عبقرى الزمان، يعتقد أنه قادر على صنع المستحيل بعقله و إرادته..
اعتدل فوق مقعده و هز رأسه بعنف.. لا يريد أن يموت الآن.. ليس حبًا فى الحياة و لا طمعًا فى المنصب.. لكن موته الآن سيؤدى إلى انتكاسة علمية، موته سيبعث الخرافات إلى الحياة و يقضى على العقل و المنطق. لا يجب أن يموت الآن.. ليس قبل عامين أو ثلاثة، على الأقل، حتى تتحرر العقول من الأوهام.. نعم أوهام.. فى الفلسفة يقولون أنها أوهام السوق و هو لا يكره شيئًا فى هذه الدنيا أكثر من هذه الأوهام.
سمع خبطات خفيفة مثل الهمس على الباب، أدرك أنه عم "خميس" يترتجف أمام الباب، ابتسم و هو يقول:
ـ تفضل يا عم "خميس".
صب العجوز القهوة فى ارتباك حتى مال الفنجان على جانبه و سالت القهوة على المكتب.. اعتذر فى أدب جم:
ـ آسف.. آسف..
ابتسم رئيس القسم و هو يقول مازحًا:
ـ لا تشغل بالك يا عم "خميس". المثل الشعبى يقول (دلق القهوة خير).
ابتسم العجوز و هو يمسح المكتب و يقول بصوت مرتعش:
ـ خير؟!.. خير إن شاء الله.
بعد أن انتهى من التنظيف قال فى آسى:
ـ تعلم جيدًا أننى أحبك مثل ابنى لكنك..
ثم صمت فى استسلام فقال رئيس القسم مازحًا:
ـ أكمل يا عم "خميس"، لكننى عنيد مغرور.
قال العجوز مشفقًا:
ـ أعلم جيدًا أنك لست مغرورًا أبدًا، لكنك عنيد..
ـ اطمئن يا عم "خميس".

مسكين عم "خميس". رجل جاهل بسيط يفكر بأسلوب القرون الوسطى، يرى العالم حوله غامضًا مبهمًا كأنه عالم من الأشباح، عالم يقع تحت سيطرة قوة خفية مجهولة بينما كل فروع العلم تؤكد أنه يخضع لقوانين صارمة.. لكن الغريب فى الأمر أن الدكتورة "سعاد" تفكر بمثل هذا الأسلوب.. إنها تلميذته.. هو الذى درّس لها قوانين الفيزياء، هو الذى دربها على التفكير العلمى، و هى إنسانة ذكية مجتهدة، تسعى لطلب العلم بكل الوسائل. رغم ذلك، فى الأسبوع الماضى أكدت له بعد محاورة علمية طويلة وجود بعض الظواهر يعجز العلم عن تفسيرها..

التفت إلى الكومبيوتر و بدأ مراسلة الأصدقاء من جامعات أوروبا و أمريكا، طلب منهم أدق الأجهزة لرصد كل أنواع الذبذبات المعروفة، طلب أدق الكاميرات للتصوير بكل أنواع الأشعة المعروفة، أكد عليهم ضرورة سرعة ارسال الأجهزة للقيام بتجربة علمية هامة.

بعد المراسلات شعر بالهوء و الثقة. أنهى عمله بدقة و إتقان و فى نهاية اليوم خرج من مكتبه يقف على باب الغرفة و هو يتعمد أن يشد ظهره و ينظر إلى السكرتارية ببريق العناد و النصر.

أثناء العودة إلى منزله، و هو خلف مقود السيارة، راح يفكر فى الأجهزة العلمية القادمة.. هل سيرسلها الأصدقاء أم سيتكاسلون؟ إذا وصلت، فما هى التكاليف؟ كل التكاليف ليست مهمة.. الأجهزة ستكشف جهل كل موظفين القسم، ستجبر كل الأساتذة على الفكر العلمى المنطقى.. كيف يعتقد أساتذة الفيزياء فى وجود غرفة ملعونة؟...

كان موجودًا بينهم عندما ترقى الدكتور "حسن" لرئاسة القسم ثم توفى بعد شهرين.. كان بينهم عندما ترقت الدكتورة "دينا" لرئاسة القسم ثم توفت بعد ثلاثة أشهر.. ثم جاء رئيس القسم التالى و رفض دخول الحجرة الملعونة و مارس عمله من مكتبه القديم.. فى هذه الأيام ثار فى وجههم لكنهم لا يسمعون.. ظلت الحجرة مغلقة عشر سنوات و هو يسخر منهم و من أفكارهم البالية.. و ها قد جاء دوره فى الترقية.. سيكشف جهلهم بهذه الأجهزة. يجب أن تصل الأجهزة فى أسرع وقت ليؤكد لهم أن الحجرة طبيعية تمامًا، لا يوجد بها أى ذبذبات غير طبيعية..

فى هذه اللحظة رن الهاتف المحمول.. رسالة من أحد الأصدقاء الذين راسلهم. فتح الرسالة و راح يقرأ بدقة متناهية.. لم ينتبه إلى أن مقود السيارة ينحرف فى يده إلى أن اطدمت السيارة بالرصيف ثم انحرفت إلى الناحية الأخرى مصطدمة بعامود النور ثم أتى الأوتوبيس من الخلف ليفعص السيارة بمن فيها