الحسد: نار تحرق القلوب وتفتك بالمجتمعات

في عالم باتت فيه المظاهر والإنجازات الشخصية تُعرض على منصات التواصل الاجتماعي، تفاقمت ظاهرة الحسد بشكل غير مسبوق، لتصبح مرضًا اجتماعيًا خطيرًا يُهدد استقرار النفوس وتماسك المجتمعات. الحسد، تلك الآفة التي لطالما حذرت منها الشرائع السماوية والقيم الأخلاقية، لم يعد مجرد شعور داخلي، بل تحول إلى أداة هدم تُضعف العلاقات الإنسانية وتزرع الفتنة بين الناس. قصص من الواقع في إحدى القرى الريفية، تحكي السيدة "فاطمة" قصتها المأساوية مع الحسد. تقول: "كنت أعيش حياة هادئة مع أسرتي، ولكن منذ أن بدأت أحوالنا المادية تتحسن وبدأنا بناء منزل جديد، تغير كل شيء. فجأة أصيب زوجي بمرض غريب لم يجد الأطباء له تفسيرًا، وأُصيب أطفالي بحالات من الخوف والقلق دون سبب واضح. بعد استشارة أحد علماء الدين، أدركنا أن ما أصابنا كان بسبب الحسد من بعض الجيران الذين لم يتحملوا رؤية نجاحنا". هذه القصة ليست الوحيدة، فهناك مئات الحكايات عن أسر تفككت، وأعمال انهارت، وأشخاص فقدوا صحتهم بسبب الحسد. رأي علماء الدين أكد الدكتور "عبد الله النجار"، أستاذ الشريعة بجامعة الأزهر، أن الحسد يُعد من الكبائر التي حذر منها الإسلام بشدة، حيث قال الله تعالى في سورة الفلق: "ومن شر حاسد إذا حسد". وأضاف: "الحسد ليس فقط شعورًا سلبيًا، بل قد يدفع صاحبه إلى ارتكاب أفعال ضارة بالآخرين، مثل السحر أو نشر الشائعات أو التسبب في الأذى المادي". وأشار الدكتور "محمد مختار جمعة"، وزير الأوقاف المصري، إلى أن الحسد يعكس ضعف الإيمان بالله وقلة الرضا بما قسمه الله للإنسان. وقال: "الحاسد يعترض على حكمة الله في توزيع الأرزاق والنعم، وهو بذلك يقع في معصية كبيرة قد تؤدي به إلى خسارة الدنيا والآخرة". التأثير النفسي والاجتماعي للحسد علماء النفس يؤكدون أن الحسد لا يؤذي فقط المحسود، بل يدمر الحاسد نفسيًا. فالشخص الحاسد يعيش في دوامة من الكراهية والغيرة التي تجرده من السلام الداخلي. تقول الدكتورة "نهى عبد الحميد"، أخصائية علم النفس: "الحاسد يعاني من شعور دائم بالنقص والدونية، مما يدفعه إلى مقارنة نفسه بالآخرين بشكل مستمر، وهذا يؤدي إلى مشكلات نفسية خطيرة مثل الاكتئاب والقلق". أما من الناحية الاجتماعية، فإن الحسد يُضعف الروابط بين الناس ويزرع الفتنة والكراهية. يقول الدكتور "أحمد كمال"، أستاذ علم الاجتماع: "في مجتمع يعاني من الحسد، تنتشر الشائعات وتضعف الثقة بين أفراده، مما يؤدي إلى تفكك العلاقات وتراجع روح التعاون". كيف نحمي أنفسنا من الحسد؟ ينصح علماء الدين بضرورة التحصن بالذكر والدعاء، مثل قراءة سورة الفلق وسورة الإخلاص والمعوذتين. كما يشددون على أهمية الابتعاد عن المبالغة في إظهار النعم، والحرص على قول "ما شاء الله" عند رؤية شيء يعجبنا. وفي حديثه عن الوقاية من الحسد، قال الشيخ "محمد حسان": "التواضع والشكر لله هما المفتاح لحماية النفس من الحسد. كما يجب علينا أن ننشر الخير بين الناس، ونتمنى لهم ما نتمناه لأنفسنا". الحسد ليس إلا نارًا تأكل قلب صاحبها قبل أن تصل إلى الآخرين. فلنكن واعين بخطورته، ونسعى لنشر قيم المحبة والتسامح والرضا. فالحياة قصيرة، ولا تستحق أن نضيعها في الغيرة والحقد. كما قال النبي محمد ﷺ: "لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه". لنقف معًا ضد الحسد، ولنزرع الخير في قلوبنا، لأن السعادة الحقيقية تكمن في حب الخير للآخرين.