حكاية أول أسطول بحري في التاريخ .. اسطورة الملك سنفرو
تدل النقوش حتى الآن على أن أول أسطول بحري عرف في تاريخ البشر يرجع عهده إلى الملك "سنفرو" أول ملوك الأسرة الرابعة، إذ يخبرنا حجر "بلرم" أنه في عصر هذا الملك قد عاد من بلاد سوريا أربعون سفينة محملة بخشب "عش" (الأرز)، وفي مدى عامين ــ كما جاء على هذا الحجر نفسه ــ قد صنعت عدة سفن يبلغ طول كل منها نحو 100 ذراع من خشب الأرز ومن خشب "مر" الذي كان يجلب من لبنان، هذا عدا 60 سفينة أقل حجمًا.
وهذه السفن التي كانت تجري في البحر الأبيض المتوسط، نراها ممثلة على جدران معبد الملك "سحورع" والملك "وناس" من عهد الأسرة الخامسة، وقد كانت هذه السفن تشحن بالبحارة ومعهم فصيلة من الجنود لتكون مظهرًا من مظاهر سلطة الفرعون، وهذه السفن كانت تبنى على نموذج السفن النيلية غير أنها كانت أكبر حجمًا وأثقل وزنًا، حتى يمكنها أن تقاوم هياج البحر من جهة وكذلك لتتحمل شحنة عظيمة من السلع من جهة أخرى، كما ذكر الدكتور سليم حسن عبر موسوعته مصر القديمة.
ومن كل ما سبق يتضح جليًّا بطلان النظرية القديمة القائلة بأن الفينيقيين هم أول قوم مخروا عباب البحار وأن المصريين لم يجرءوا على الملاحة إلا بعد الفينيقيين بزمن بعيد جدًّا، وينسبون ذلك إلى موقع فينيقية الجغرافي من جهة وإلى ثروة بلادها في الأخشاب الصالحة لبناء السفن من جهة أخرى مما جعلها سيدة التجارة على شواطئ البحر الأبيض، كما أكدت موسوعة مصر القديمة.
ومن يقرأ الكتب القديمة يعرف مقدار انتشار هذا الرأي الذي أثبتت الكشوف الحديثة بطلانه. ومما قيل في هذا الصدد وثبت أنه خرافة: «أن هناك أسبابًا تدعو المصري لعدم التوغل في البحر والتجارة مع بلاد الشاطئ، منها: تكوين مصر الطبيعي، والخوف من أهوال البحر ولصوصه.» وتورط كذلك بعض المؤرخين في القرن السالف فقال: "لا بد أن الملاحة كانت تعتبر في حيز العدم في عهد الفترة الأولى من تاريخ مصر، وذلك لأن عزلة أهلها عن باقي العالم قد منعتهم عن المغامرة في عرض البحار، وأنهم لم يقوموا بالملاحة إلا في أواخر الأسرة الثامنة عشر" ثم قال: "والسبب الذي منع المصريين أن يكونوا ملاحين عظماء هو السبب الذي حال دون عظمتهم التجارية. وفي الوقت الذي كان فيه الفينيقيون يقومون بكل أعمالهم التجارية بطريق البحر مع جميع الدول كانت تجارة مصر محصورة في بلادها وجعلتهم تحت رحمة الأجانب الذين كانوا يقومون بالأعمال التجارية الخارجية لهم".
ويضيف الدكتور سليم حسن: وقد فات قائل ذلك أن سكان وادي النيل منذ أقدم العهود قد وجدوا في نهرهم المنقطع القرين مدرسًا عظيمًا يتعلمون على يديه أول درس في الملاحة عرف في تاريخ البشر، فقد كانوا يعيشون طوال العام على شاطئيه الخصيبين، وكان فيضانه السنوي يجبرهم على خوض الماء في كل وقت، ولا نظن أن الملاحة في النيل كانت دائمًا سهلة لا يعتورها أي خطر. بل كانت في مدة الفيضان وهبوب الرياح تحفها مخاطر جمة. ولم يكن المصري بالشخص الذي يخاف هذه المخاطر ويحجم عن اقتحامها، إذ كان النيل أهم طريق المواصلات، وقد كان لديه العدة لاقتحام أهوال هذا النهر بما صنعه من السفن المتينة التي أخذ في تحسينها على مر الزمن حتى جعلها صالحة لتمخر عباب البحر نفسه، على أن الملاحة في البحار كانت ساحلية على وجه عام يقوم بها الملاحون في أحسن فصول السنة الملائمة عندما يكون الجو هادئًا والرياح رخاء بالقرب من الشاطئ كما سنتكلم عن ذلك في حينه.
وقد ذكرنا فيما سبق أنه كان يوجد في مصر موانٍ زاهرة غنية على شاطئ الدلتا منذ عصر ما قبل الأسرات كمدينة متليس (فوة) التي رمز لها بالخطاف والقارب على لوحة "نعرمر"، وكانت أساطيل هذه المدن تقوم برحلات تجارية مع السواحل السورية، وييشير الدكتور سليم حسن على أننا من جهة أخرى لا ننكر أن الفينيقيين كانوا يتجرون مع جزر البحر الأبيض المتوسط قبل ذلك العهد، ولكنا ننكر أنهم أساتذة المصريين في تعلم فن الملاحة الذي تفوق هؤلاء فيه، ولدينا براهين ساطعة تدل على أسبقيتهم الأمم الأخرى بعدة قرون. منها أن المدن المذكورة وجدت قبل أن يكون للفينيقيين شأن في عالم الملاحة البحرية، إذ الواقع أنهم لم يظهروا في هذا الأفق إلا في النصف الأول من الألف الثانية قبل الميلاد، هذا إلى أن سفنهم قد بنيت على الطراز المصري.
وعلى ذلك تكون النظرية القائلة بأن سفن "سنفرو" و"سحورع" كانت فينيقية لا أساس لها من الصحة، ويضاف إلى ذلك أن تمثيل السفن البحرية في معبد "سحورع" الجنازي يشعر بأصل مصري، وقد لاحظ البعض أن اسم السفينة «كبنت» نسبة إلى «كبن» (ببلوص بالمصرية)، ورأوا في هذا أن أصل صنع السفينة كانت في هذه الجهة، ولكن لا يلزمنا أن نستنتج من هذا أن أهالي النيل قد تعلموا فن بناء سفنهم والملاحة من ببلوص، إذ الواقع أن لفظة "كبنت" تفسر بوضوح أن أول سفن بحافة عالية كانت تلك التي سافرت إلى ببلوص، أو أن هذه السفن قد صنعت من خشب لبنان الذي كان يشحن من شاطئ ببلوص، ومما يعزز ذلك أن السفن التي كانت تمخر عباب البحر الأحمر إلى (بنت) في عهد "بيبي الثاني" وما بعده كانت تسمى كذلك كبنت.
وعلى أية حال فهناك حقيقة لا مراء فيها وهي أن المصريين منذ فجر تاريخهم بل منذ عصر ما قبل التاريخ كانوا يسبحون في البحر. وأن البعوث التي كانوا يقومون بها في عهد الدولة القديمة ما هي إلا استمرار لتجاراتهم الخارجية التي كانوا يقومون بها من مواني النيل في عصر ما قبل التاريخ، يضاف إلى ذلك أن نشاطهم البحري هذا كان نتيجة التجارب التي كانوا يقومون بها في نيلهم وما قاموا به من بناء السفن مما جعلهم ليسوا في حاجة إلى أن يتعلموا من الخارج فن الملاحة.