الشيخ أحمد علي تركي يكتب: الفُرقةُ والاختلافُ
الفُرقةُ أخطر الأمراض التي انتشرت في جسد أمَّتنا الإسلاميَّة على مستوى الأفراد والجماعات ومُحيط الأمَّة كلِّها .
فباتت وأضحت وأصبحت كلُّ دولة لا تهتم إلا بأمر نفسها وكلٌّ من الأفراد يَنتصر لمصلحة نفسه وحزبه وجماعته .
فقلَّ أن تجدَ مجموعةً من النِّساء أو الإخوة أو الجيران مترابطين متحابِّين.
ولهذا نَحرص على لمِّ الشَّمْل وتوحيدِ الصَّفِّ وجمع الكلمة اقتداءً بمُعلِّم البشرية .
أخرج الإمام مسلم في صحيحه عن أبي هريرة قال :
قال رسولُ الله :
إن الله يرضى لكم ثلاثًا ، ويكرهُ لكم ثَلاثًا ، فيرضى لكم : أَنْ تَعبُدوه ولا تشركوا به شيئًا وأن تعتصموا بحبل الله جَميعًا ولا تَفرَّقوا .
ويكرهُ لكم: قيل وقال ، وكثرةَ السُّؤالِ ، وإضاعةِ المال .
الفُرقةُ والاختلافُ سببُ هلاك الأُمم:
أخرج البخاري في صحيحه عن ابن مسعود رضي الله عنه قال :
سَمعتُ رجُلاً قرأ آيةً وسمِعتُ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم يَقْرَأُ خِلافها فَجِئتُ به النبيَّ صلى الله عليه وسلم فأخبرتُهُ فَعرفْتُ في وَجههِ الكَراهيةَ وقال :
كِلاكُما مُحْسِنٌ ولا تَخْتَلفوا فإنَّ مَن كان قبلكم اختلفوا فهلكوا .
ولا تختلفوا ، فإن من كان قبلكم اختلفوا فهلكوا .
فالخلاف يؤدي إلى الفُرقة ، والفرقة تؤدي إلى الضَّعف ، والضعفُ يُجرِّئ الأعداء علينا .
وهذا عين ما يحدثُ الآن ؛ فالمرء منا قليل بنفسه كثير بإخوانه ، ضعيف بمفرده قوي بجماعته .
وإذا قرأنا التاريخ نجد أنه لما وقع الخلافُ بين المسلمين ودبَّت الفرقةُ بين صفوفهم بعد مَقتل عثمان ووقعت الحربُ بين عليٍّ ومعاوية رضي الله عنهما وذلك من أجل ثأر عثمان .
وكانت بلاد الرُّوم قد فتح المسلمون أكثرها وكانت تُسمى المملكة البِيزنطينيَّة ، فتح المسلمون مصر والشام إلى شمال إفريقيا ، لما علم قُسطنطين مَلكُ بيزنطة بالخلاف بين عليٍّ ومعاوية .
وجد أنها فرصة سانحة للهجوم على المسلمين واسترداد أرضه .
ولكن انظر إلى موقف معاوية وماذا قال له :
أيُّها الأحمقُ الرُّومي إنك تقصد قتال المسلمين مُنتهزًا الخلاف الذي بينهم ، فإن تقدمت في القتال فاعلم عندئذ أن معاوية أدنى جند في جنود علي ضدك ، فلما وصله الخبر ضعف عزمُه وأمر بإيقاف الاستعدادات العسكرية .
فانظر مجرد خبر عن اتحاد المسلمين كان سببًا في قطع المطامع عن قتالهم ، فما بالك لو اجتمعنا على الحقيقة .
إن الفُرقة والاختلاف كانت سببًا في هزيمة المسلمين في أُحد حينما جمع المشركون لقتال النبيِّ وأصحابه وخرجوا في ثلاثة آلاف مُقاتل وكان عدد الصحابة سبعمائة مقاتل فخرج الرسول إلى جبل أُحد وجعل ظهره إلى المدينة وجعل على الجبل خلف المسلمين خمسين من الرُّماة وقال لهم :
قوموا على مصافِّكُم هذه فاحمُوا ظهورَنا ، فإنْ رأيتُمونا قد انتصرنا فلا تَشرَكونا ، وإنْ رأيتُمونا نُقتلُ فلا تَنصرُونا .
وبدأت المعركةُ ، وقُتل مُصعب حاملُ اللِّواء فأخذ اللواءَ عليُّ بنُ أبي طالب وما هو إلا أن انكشف جيش المشركين مُنهزمين وتبعهم المسلمون يَقتُلون ويَأسِرون فتكلم الرُّماةُ الذين كانوا على الجبل في النزول ، واختلفوا فيما بينهم فنزل كثيرٌ منهم يظنُّ أن الحربَ قد وضعت أوزارها .
وبقي عبدُالله بن جُبير ومعه جماعة من أصحابه وهكذا اختلفوا فيما بينهم وخالفوا أمر رسول الله .
فكانت النتيجة أن كرَّ عليهم خالدٌ فقتلهم وانكشف جيشُ المسلمين وشُجَّ وجهُ النبي وقُتل حمزةُ وأنسُ بن النضر وغيرُهم .
وفي العصر الحديث سقطت الأندلس "إسبانيا الآن وجزء من البُرتغال" بعد أن حكمها المسلمون قُرابةَ ثمانمائة عام .
أسَّسوا فيها الحضارة الحديثة واكتشفوا العلوم التَّجريبيَّة التي نقلها عنهم الغربُ وصار الأمر على ذلك إلى أن حدثت الفُرقة بين الأمراء وبين الحكومة المركزيَّة ، لدرجة أن الأُمراء تحالفوا مع أعدائهم ضد حكومتهم .
فكانت النتيجة أن فقدوا أعظم حضارة وتحولت المساجد في الأندلس إلى كنائسَ وأصبح الأمر أثرًا بعد عَين وتظل إلى الآن بزخارفها ومعالمها شاهدةً على حضارة المسلمين وتقدُّمهم التي ضاعت بسبب اختلاف المسلمين وتفرُّقهم.
أيضاً بسبب الفُرقة كانت أكبر مصيبة في العصر الحديث "سقوط الخلافة العثمانية" استطاع اليهود دسَّ الفُرقة والخلاف بين صفوف المسلمين بسبب ضعفهم ورفعوا شعار "فرِّقْ تَسُد".
وكانت النتيجة سقوط الخلافة العثمانية ووقوع البلاد الإسلامية جزءًا في أيدي اليهود كفلسطين وجزءًا في يد الاستعمار الأوربي .
وصارت تركة توزَّع حينما افترقوا .
لذلك يُخاطبنا الله في قرآنه :
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ ﴾
[الأنفال: 45، 46].
الفُرقة سببٌ في محق الخير ورفع البركة :
ومِن ذلك ما أخرجه البخاري في "صحيحه":
بابُ رفعِ معرفةِ ليلة القدْرِ لِتَلاحِي النَّاسِ :
عَن عُبادةَ بنِ الصَّامت قال :
خرج النَّبي صلى الله عليه وسلم ليخبرنا بليلة القدر ، فَتلاَحى رجلانِ مِن المسلمين فقال :
خَرجْتُ لأُخبرَكمْ بلَيلةِ القدْر فَتَلاحَى فُلانٌ وفلانٌ فَرُفعتْ وعسى أَنْ يكُونَ خَيرًا لكم فالتمِسُوها فِي التَّاسِعَة والسَّابعةِ والخامسةِ .
حتى على الطعام يأمرُنا صلى الله عليه وسلم أن نأكل مجتمعين التماسًا للبرَكَة .
ومن ذلك ما أخرجه البخاري في "صحيحه" عن أبي هريرة رضي الله عنه أَنَّه قال :
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
طعام الاثنين كافي الثلاثة وَطعامُ الثَّلاثة كافي الأربعة .
وما أخرجه الطبراني عن ابن عمر قال :
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
كلوا جميعًا ولا تفرقوا فإن طعام الواحد يكفي الاثنين وطعام الاثنين يكفي الأربعة اللهم بارك لأهل المدينة في صَاعِهم وبارِكْ لهم في مُدِّهم .
ولمَّا كانت للفُرقة هذه الآثار المدمرِّة أمر الله رسوله الكريم وجميعَ المرسلين قائلاً :
﴿ شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ ﴾
[الشورى: 13].
وقال سبحانه :
﴿ إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ ﴾
[الأنبياء: 92].
وأمرنا بالصلاة في جماعه والصيام والحج وكل ذلك من مظاهر الوَحدة عند المسلمين
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية :
والاجتماع والائتلاف من أعظم الأمور التي أوجبها الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم وهذا الأصل العظيم وهو الاعتصام بحبل الله جميعًا وأن لا يتفرق هو من أعظم أصول الإسلام ومما عظمت وصية الله تعالى به في كتابه ومما عظم ذمُّه لمن تركه من أهل الكتاب وغيرهم ومما عظمت به وصية النبي صلى الله عليه وسلم في مواطن عامَّة وخاصَّة .
فالاجتماع والوَحدة ضرورة حياة ، بها تقوم الحضارةُ وتُقبل الطاعة ، ويُمكَّن للمسلمين فسلاح الوحدة يفوق كلَّ سلاح .
لذلك حينما أراد أن يؤسس مجتمعًا قويًّا بالمدينة آخى بين المهاجرين والأنصار ليس ذلك فحسب ، بل عقد وثيقة دفاع مشترك بينه وبين فرقاء الوطن من يهود وغيرهم ولم يخرجهم من المدينة إلا يوم أن خانوا العهود والمواثيق جزاءً وِفاقًا .
فطريق النصر والقيادة والرِّفعة والحضارة مفتقر إلى الوحدة .
وهذا ما نجح صلاح الدِّين في تحقيقه فردَّ الله على يديه بيتَ المقدس .
تقول الموسوعة البريطانية:
لقد نجح صلاحُ الدين في قلب الميزان العسكري للقوَّة في صالحه عن طريق الاتحاد وضبط العدد العظيم مِن القُوى المشتَّتة أكثر من استخدام التكتيك العسكري الحديث أو المتطور .
لذلك عمل الأعداء قريبًا وحديثًا على تفريق المسلمين ، وزرع الشِّقاق بينهم .
فعلينا أن نستقيم على طريق الوَحدةِ ونسأل الله أن يجمعنا دائما على الخير والصلاح والطاعة .
والله ولي التوفيق