اليوم .. ذكرى رحيل أديب نوبل نجيب محفوظ
الكتابة عن الأديب المصري الكبير نجيب محفوظ الحائز على جائزة نوبل عام 1988، والذي تحل ذكرى وفاته في أغسطس من كل عام منذ أن سكن السماء ليست صعبة.
فكل ما عليك فعله هو أن تكتب كل ما يرد في ذهنك من كلمات تلهث وراء "محفوظ"، مثلا، أن تبدأ من صورة التقطها أحدهم له، وهو يضع قدماه الواهيتان واحدة على الأخرى، ويدخن الشيشة ويقرأ في صحيفة قومية كتبا على صفحتها الأولى- مانشيت بالخط العريض- خبر فوزه بجائزة نوبل، التي لم يذهب لمراسم استلامها بنفسه، وهذا كله في المقهى دون شك، تقذف هذه الصورة التي جمدت لحظة مهمة في تاريخ نجيب محفوظ البصري حزما من الدلالات لا حصر لها، واعتبرها بوابة مرور زمكانية قادرة على نقل من يصادفها بصريا، إلى عالم محفوظ السردي دفعة واحدة أو جذبه من هذا العالم المحفوظ إلى الواقع الآني في طرفة عين إذ تذكرها القارئ.
ومن كثافة صورة أديبنا إلى كثافة وتعدد شخصيات روايته الشهيرة "زقاق المدق" والتي قال عنها الناقد والكاتب المكسيكي "مانويل بيلمور " أن الحكايات اليومية العادية المتواترة عند "محفوظ" تتحوّل إلى مادة أدبية ثريّة وآسرة، فأقلّ الأحداث وأبسطها تعالَج في هذه الرواية بعمق تحليلي، باعث على التساؤل حول هذه النماذج البشرية التي يمكن أن توجد في أيّ بقعة من بقاع العالم، ويجسّد لنا به ذلك العالم الصاخب المتنوّع الغارق في طيّات الزمن ومتاهاته، وبين مجاهيل المكان الذي ليس من الضرورة أن يكون زقاقاً من أزقّة القاهرة، بل يمكن أن يكون أي مكان في العالم.
وسُمي نجيب محفوظ باسم مركب تقديرا من والده عبد العزيز إبراهيم للطبيب أبو عوف نجيب باشا محفوظ الذي أشرف على ولادته التي كانت متعسرة، وولد نجيب محفوظ عبد العزيز في حي الجمالية، وأمضى طفولته في هذا الحي الشعبي البسيط الذي استلهم منه أحداث رواياته التي كتبها، فصعد بها إلى آفاق الأدب الإنساني، ثم انتقل وعائلته من هذا الحي إلى العباسية والحسين والغورية، وهي أحياء القاهرة القديمة التي أثارت اهتمامه في أعماله الأدبية، وفي حياته الخاصة، ثم التحق بمدرسة بين القصرين الابتدائية، وبعد أن انتقلت الأسرة عام 1924 إلى العباسية، حصل على شهادة البكالوريا من مدرسة فؤاد الأول الثانوية، ثم على شهادة إجازة الليسانس في الفلسفة عام 1934 من جامعة القاهرة، وعمل بعدها موظفاً في وزارة الأوقاف.
كان يرى نفسه واحداً من أولئك الحرافيش البسطاء المسحوقين الذين عاشوا في الحارة المصرية في ثقافتها ومفاهيمها وعاداتها وتقاليدها محللاً أوضاعهم الاجتماعية، محبّاً لهم، مما جعله يهوى مجاورتهم
وفي 21 سبتمبر 1950 بدأ نشر رواية أولاد حارتنا مسلسلةً في جريدة الأهرام، ثم توقف النشر في 25 ديسمبر من العام نفسه بسبب اعتراضات هيئات دينية على "تطاوله على الذات الإلهية"!. لم تُنشر الرواية كاملة في مصر في تلك الفترة، واقتضى الأمر ثماني سنين أخرى حتى تظهر كاملة في طبعة دار الآداب اللبنانية التي طبعها في بيروت عام 1967، وأعيد نشر أولاد حارتنا في مصر في عام 2006 عن طريق دار الشروق في أكتوبر 1995 طُعن نجيب محفوظ في عنقه على يد شابين قد قررا اغتياله لاتهامه بالكفر والخروج عن الملة بسبب روايته المثيرة للجدل.
الجدير بالذكر هنا أن طبيعة نجيب محفوظ الهادئة كان لها أثر كبير في عدم نشر الرواية في طبعة مصرية لسنوات عديدة، حيث كان قد ارتبط بوعد مع حسن صبري الخولي "الممثل الشخصي للرئيس الراحل جمال عبد الناصر" بعدم نشر الرواية في مصر إلا بعد أخذ موافقة الأزهر. فطُبعت الرواية في لبنان من إصدار دار الآداب عام 1962 ومنع دخولها إلى مصر رغم أن نسخا مهربة منها وجدت طريقها إلى الأسواق المصرية.
لم يمت "نجيب محفوظ" كنتيجة مباشرة لمحاولة اغتياله، وفيما بعد أُعدم الشابين المشتركين في محاولة الاغتيال رغم تعليقه بأنه غير حاقدٍ على من حاول قتله، وأنه يتمنى لو أنهما لم يُعدما، وتوفي في الثامنة وخمس دقائق من صباح الأربعاء 30 أغسطس 2006 م في مستشفى الشرطة بحي العجوزة. تاركا إرثا أدبيا مصريا ما زالت الأبحاث تضعه تحت مجهرها عالميا ومصريا وعربيا.
ورغم ذلك شحيحة الدراسات التي تناولت شخصه ومواقفه على المستوى الإنساني، واقتحمت عقله ورصدت طبائعه وصفاته، لتقدم أبحاثها لقارئ من الضروري أن يعرف نجيب محفوظ الموظف بوزارة الأوقاف والعازف على آلة "القانون" الموسيقية ولاعب "البوكس" والروائي والقاص وكاتب المقالات والسيناريست والأب والزوج والصديق، الأغرب من ذلك هو أن الدراما والسينما لم يفكر أحد من روادها في انتاج عمل يتناول حياة أديب نوبل نجيب محفوظ.