جريدة الديار
الأحد 24 نوفمبر 2024 01:26 صـ 22 جمادى أول 1446 هـ
بوابة الديار الإليكترونية | جريدة الديار
رئيس مجلس الإدارة أحمد عامررئيس التحريرسيد الضبع

ما حكم الشرع في بيع العملة الأجنبية بالسوق السوداء؟

شوقي علام
شوقي علام

الدكتور شوقي علام مفتي الجمهورية: إنه من أحد خصائص المعاملات المالية في الإسلام مراعاتها لمصالح أطراف المعاملة جميعًا؛ بحيث لا يَلحَق ضررٌ مؤثِّرٌ بأحد الأطراف، وتلك الخصيصة طبيعة لما يمليه العدل الكامل الذي رسَّخته الشريعة الإسلامية؛ وكل ذلك لأن المعاملات مبناها على التشاحح لا المسامحة.

ورد علام، على سؤال يقول صاحبه: هل احتكار الدولار في أيامنا هذه يدخل تحت الاحتكار المنهي عنه، وما هو جزاء مَنْ يقوم بجمع الدولار ليضارب به بقصد الإضرار باقتصاد الدولة، وهل المال المكتسب من تجارة السوق السوداء حرامٌ شرعًا؟

وقال: ولأجل تحقيق هذا المقصد نهى الشارع عن بعض الممارسات التي قد تضر بمصالح بعض أطرافها، وسدَّ بطريقة محكمة منافذ هذه الممارسات بما يجفِّف منابعها، ومن تلك الممارسات ما يعرف بـ(الاحتكار) الذي هو أحد الأسباب الرئيسة في ظهور ما يعرف بـ (السوق السوداء).

والاحتكار في اللغة يأتي لمعانٍ؛ منها: الضيق، والقلة، والاحتباس، والاستبداد، وغالب المعاني والاستعمالات اللغوية للاحتكار تحمل معنى سوء الخلق، وكون الإنسان ظالمًا في معاملاته، بما يُنبِئ عن نُفرِة النفس عن هذه الممارسة الضارة.

وتعريف الفقهاء للاحتكار فيه تباينٌ نظرًا لما ضمَّنه كل فقيهٍ من شروطٍ وأحكامٍ قد لا يراها فقيهٌ آخر، فعرّفه الحنفية بأنه: حبس الطعام للغلاء. ينظر: "العناية شرح الهداية" للإمام شمس الدين البابرتي الحنفي (10/ 58، ط. دار الفكر).

ولم يذكر المالكية حدًّا للاحتكار، لكن المأخوذ من كلامهم أنه حبس شيء من الطعام أو غيره في وقت يضر احتكاره فيه بالناس. ينظر: "البيان والتحصيل" لابن رشد المالكي (7/ 360، ط. دار الغرب الإسلامي).

وعند الشافعية: هو اشتراء طعام غير محتاج إليه وقتَ الغلاء لا الرخص، وإمساكه وبيعه بأكثر من ثمنه للتضييق. ينظر: "نهاية المحتاج" للإمام شمس الدين الرَّملي الشافعي (3/ 472، ط. دار الفكر).

وعند الحنابلة: هو شراء قوت الآدمي وادخاره للضرر. ينظر: "المبدع في شرح المقنع" للإمام برهان الدين ابن مفلح الحنبلي (4/ 47، ط. دار الكتب العلمية).

والمعنى الملاحظ في كل هذه التعريفات أنَّ الاحتكار يكون في الأقوات -أي: ما يقوم به بَدَن الإنسان من الطعام-، لكن هذا المعنى مختلف فيه، فقد وقع الخلاف بين الفقهاء في العلة التي من أجلها مُنِع الاحتكار، والبحث عن علة المنع من الاحتكار يُبْنَى عليه القول في حكم "احتكار الدولار".

والحاصل من أقوالهم: أن العلة في منع الاحتكار ليست ذات الاحتكار، بل الإضرار بالناس، ولهذا يقول الإمام البيهقي في "معرفة السنن والآثار" (8/ 206، ط. دار الوعي بحلب) بعد ذكره حديث معمر رضي الله عنه: «مَنِ احْتَكَرَ فَهُوَ خَاطِئٌ»؛ قال: [إنما أراد -والله أعلم-إذا احتكر من طعام الناس ما يكون فيه ضرر عليهم دون ما لا ضرر فيه] اهـ.

وعلى ما ذُكِر يُبْنَى القول في مسألة "احتكار الدولار"؛ فإذا مَشَينا على القول بأنَّ الاحتكار لا يختص بالأقوات -كما هو عند المالكية-، فلا ريب في أن حبس العُمْلات كالدولار واليورو داخلٌ في مفهوم الاحتكار إذا تحقَّق فيه شروط الاحتكار، وإذا مَشَينا على القول بأنه لا احتكار إلا في الأقوات خاصة، فإن إلجاء الناس إلى مرتبة الضرورة أو الحاجة في حبس غير القوت داخلٌ أيضًا في مفهوم الاحتكار كما سبق بيانه، وهو ما يُؤْذِن بدخول حبس العملات أوقات احتياج الناس إليها في معنى الاحتكار.

لا سيما وأنَّ حبس العملات -كالدولار واليورو وما أشبههما- والضَّنَّ بها في أوقات الاحتياج إليها فيه تضييقٌ على عامة الناس من خلال ارتفاع الأسعار للسلع والخدمات ومتطلبات الحياة، وإلحاق ضرر باقتصاد بلادهم، ويؤثِّر سَلْبًا في الاستقرار ومسيرة البناء والتنمية، وكل ذلك يُعَدُّ اعتداءً صارخًا على مصالح الناس، وإيقاعًا للمحتاجين منهم في الحرج والمشقة، وهذا كافٍ في القول بحرمة احتكار العملات، إضافةً إلى ما ورد من النهي عن الاحتكار أصالةً؛ فقد ورد النهي عن الاحتكار في عدة أحاديث، منها: حديث معمر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «مَنِ احْتَكَرَ فَهُوَ خَاطِئٌ» أخرجه مسلم، وفي رواية: «لَا يَحْتَكِرُ إِلَّا خَاطِئٌ».

من أجل ذلك، حرص الـمُشرِّع المصري على منع مثل هذه الممارسات التي تضر بالاقتصاد وجَرَّمها؛ وذلك في القانون رقم (88 لسنة 2003م) والمعدَّل بالقانون رقم (66 لسنة 2016م)؛ فقد عُقِد الفصل الثاني منه لتنظيم عمليات النقد الأجنبي؛ حيث تنص المادة (111) منه على الآتي: [لكل شخص طبيعي أو اعتباري أن يحتفظ بكل ما يؤول إليه أو يملكه أو يحوزه من نقدٍ أجنبي، وله الحق في القيام بأية عملية من عمليات النقد الأجنبي بما في ذلك التحويل للداخل والخارج والتعامل داخليًّا، على أن تتم هذه العمليات عن طريق البنوك المعتمدة للتعامل في النقد الأجنبي، وللشخص الطبيعي أو الاعتباري أيضًا التعامل في النقد الأجنبي عن طريق الجهات الـمُرخَّص لها بهذا التعامل طبقًا لأحكام هذا القانون وفقًا لما تبيِّنه اللائحة التنفيذية له] اهـ.

وتنَصُّ المادة (113) منه على الآتي: [للبنوك المعتمدة القيام بكافة عمليات النقد الأجنبي.. ويَقتَصِر تصديرُ واستيرادُ أوراق النقد الأجنبي وتصديرُ العملات الأجنبية على البنوك المعتمدة بعد موافقة البنك المركزي] اهـ.

أما عن تجريم الاتجار بالعملة؛ فقد نَصَّ القانون المشار إليه في المادة (126 معدَّل) على الآتي: [يعاقَب بغرامة لا تقل عن عشرة آلاف جنيه ولا تجاوز عشرين ألف جنيه كلُّ مَن خالف أيًّا مِن أحكام المواد (111 و113 و117) من هذا القانون] اهـ.

وهذا نصٌّ قاطعٌ في معاقبة مَن يقوم بالتعامل في العملات الأجنبية عن طريق الجهات غير الـمُرخَّص لها بهذا التعامل، وهو ما يعرف بـ"السوق السوداء"، وإذا قامت الدلائل الصريحة على تجريم ولي الأمر (الحاكم أو القانون) لفعلٍ مِن الأفعال فلا ريب في صيرورته محظورًا شرعًا؛ ذلك أنَّ تصرفَ الحاكم على رعيته منوطٌ بالمصلحة.

وأنه يجب عليه توخِّي مصالح المحكومين بما يحقِّق مقاصد الشرع، وله تدبير الأمور الاجتهادية وفق المصلحة التي يُتوَصَّلُ إليها بالفكر والبحث والتحري واستشارة أهل الخبرة، وله أن يُحدِث من الأقضية بقدر ما يستجد مِن النوازل، وتصرفُه حينئذٍ تصرفٌ شرعيٌّ صحيحٌ يجب إنفاذُه والعمل به ما لم يأمر بمعصية.