جريدة الديار
الثلاثاء 24 ديسمبر 2024 02:09 صـ 23 جمادى آخر 1446 هـ
بوابة الديار الإليكترونية | جريدة الديار
رئيس مجلس الإدارة أحمد عامررئيس التحريرسيد الضبع

75 عامًا على ميلاده.. الإمام الطيب الإصلاحي النبيل

شيخ الأزهر
شيخ الأزهر

الديار - صلاح حسن رشيد

رجلٌ صموتٌ صبورٌ حليمٌ حكيمٌ على خُلُقٍ قويم.. وضيء الوجه والروح، مُشرِق السجايا والخصال، تتكلَّم صفاته وتُجاهِر بالخير والحق والسماحة.. أينما حلَّ وأقام ومَرَّ زرع المعروف بين الناس، أشاد مدينة الأخلاق الفاضلة الحقيقية الواقعية.. يفزع إليه الناسُ عند الخطوب والمشكلات والنوازل.. له في كل القلوب والبيوت.. المريدون المُحِبون المقتفون آثاره الطيبة.. ينصرف بنفسه وروحه وكِيانه كله عن بهرج الحياة وصخبها، يُؤْثِر العملَ على الكلام، دَيْدَنه التواضع والشفقة والرحمة، وشِعاره الإنجاز والبحث والاطِّلاع ما وسعه ذلك، عزف عن أهل الجاه والصولجان، وابتعد عن الأضواء والشهرة، ولم يُزاحِم على المناصب ولا الكراسي، ودائمًا ما يُقدِّم أهل الكفاءة والجدارة والخبرة والثقة في كل مجالٍ. لم يختر لنفسه شيئًا؛ بل عاش يختار له الأولياءُ الأتقياءُ طريق حياته.. عاشقٌ للفلسفة، وهو المتوضئ بماء الحكمة، والصوفيُّ الضليع، والفقيه الفذ، وهاضم تراث الأجداد، والناهل من السربون والغرب.

الإمام أحمد الطيب (1946م-...) تمر اليوم خمسة وسبعون عامًا على ميلاده، وهي مناسبةٌ جديرة بالحفاوة والاحتفال والتقدير لشخصه وتفرده، وتناول مسيرته العطرة، والتحليق مع جوانب من عبقريته ونبوغه وإخلاصه وعلمه الجم؛ هذا الرجل الذي تلوح في سيماه أنوارُ مدرسة الأستاذ الإمام محمد عبده وعلائمها التجديدية، وتفوح منه روائح الإمام المراغي الإصلاحية، وتدل على نفسها في قسماته روحانية الإمام مصطفى عبد الرازق المتمثلة في منهجه وطريقته: فلسفة كِرام النفوس، وتشف في أعطافه وتلافيفه ريادة الإمام محمود شلتوت وتطويره للأزهر الشريف الجامع والجامعة، وتجري في دمائه رقائق وخشوع وغَيرة الإمام عبد الحليم محمود على الإسلام والمسلمين.

ورث الإمام أحمد الطيب أفضال الإصلاحيين المجتهدين من الأئمة الأعلام طوال التاريخ الإسلامي، وتجمَّعتْ فيه أمجاد الفقهاء والفلاسفة والمتكلِّمين؛ فأدرك مقدار ما حباه الله به من نِعَم الفقه والفهم والدراية والرواية والحكمة العالية الغالية؛ فلم يُجاهر بالحديث عن نفسه، وآثر عدم التحدث عن نعمة الله إشاحةً عن الوقوع في دائرة حب النفس، ومظنة العُجب بها والخُيلاء؛ فكان آيةً صادقةً تمشي على الأرض تتجسَّد فيها نفحات وفيوضات وآلاء العفو، والإحسان، والتسامح، والغفران، وكظم الغيظ، وبث الحب والخيرات في كل مَنْ يلقاه ويُقابله.

لم يعرف أحمد الطيب إلا لغة المودة ومقابلة السيئة بالإحسان والتجاوز، والدعوة مِنْ شغاف قلبه وروحه لمن يهاجمه أو يِسيء إليه بالهداية والتوفيق .. فهو رجلٌ نشأ في بيت علمٍ وتصوفٍ على يد إمامٍ ربّاني، هو والده الشيخ الجليل محمد الطيب، ثم تربَّى في أعرق معهدٍ وجامعةٍ على ظهر الأرض، الأزهر الشريف؛ فنهل منه ومن مشايخه العلم والفضل، الأخلاق والسلوك، النبوغ والتألق، فهضم العلوم والفنون، وساح في جنبات العلم والفكر يطلب كل ذلك من أجل هدفٍ واحدٍ؛ هو استرجاع نهضة المسلمين من جديدٍ، كما كانت من قبل، يوم كنا سادة الدنيا: علمًا وحضارةً وأخلاقًا ونبلًا.

أحمد الطيب؛ قليل الظهور، لا يعرض نفسه على الميديا والفضائيات والصحف والمجلات، بل يزهد فيها، ولا يسمح لنفسه بالبروز باستمرار كما نرى من بعض العلماء والشيوخ، لا بل يعتكف في محرابه وخلوته للبحث والاستنباط والتباحث والتحاور، عظيم التأثير فيمن حوله، لايَسَعُ مَنْ يراه، ويقترب من فضيلته إلّا أنْ ينجذب إليه بوشائج متينةٍ من الإعجاب والتقدير والإشادة البالغة.

أحمد الطيب أتته المناصب راغمةً طائعةً مختارةً، وهو الذي لم يُفكِّر فيها أصلًا، ولم يطلبها أو يتنازل قِيد شعرةٍ من أجلها عن أي شيء على الإطلاق.

أحمد الطيب دانتْ له القلوب والعقول في الشرق والغرب، وأجمعت الأرواح على حبه وتقديره، والتعلق بشخصه الملائكي النوراني، الذي يقطر رحمةً وشفقةً وسَكينةً على الناس كل الناس، بصرف النظر عن أديانهم، وأعراقهم، ولغاتهم، ومذاهبهم، وألوانهم.

أحمد الطيب، الذي حمل على كاهله همَّ تطوير المناهج الأزهرية لتواكب روح العصر، ويجد حلولًا لمشكلاته ومستجداته الآنية في العلوم الحديثة؛ فاجتهد-في صمْتٍ وبلا صخب- من أجل تحقيق هذا الهدف النفيس؛ فلم يتخذ بِطانةً من الإعلاميين للترويج لمشروعه، أو التحدث عنه صباح مساء، كما فعل بعض الناس، لكنه اتخذ الإنجاز على لغة الكلام نبراسًا له.

أحمد الطيب أكثر شيوخ الأزهر اتساعًا للصدر، وأرأفهم قلبًا وحِلمًا حتى مع خصوم الأزهر؛ فهو يصبر على أذاهم، ويراهم عرفوا شيئًا وغابت عنهم أشياءُ! وهو الذي يفتح أبوابه على مصاريعها أمام الجميع، المُحِبّ والكاره، ويتمنى لو جاءه أمثالُ هؤلاء؛ فتحاوروا معه حول ما يَعِنُّ لهم من المؤاخذات والآراء من خلال اتِّباع فلسفة المكاشفة بحبٍّ، والبحث عن الحلول بمودةٍ ومرحمةٍ.

أحمد الطيب، نسيجُ وحدهِ في التفاؤل والأمل والبشارة، وفي ارتقاب الفرج بعد الشدة، واليُسر بعد العُسر، وفي ابتناءِ جيل النهضة والإفاقة والتقدم من جديدِ، عن طريق التَّبحُّر في درر التراث الغالي، وفي إتقان علوم العصر التي سبقنا فيها الغربُ .. كما كانت نهضتنا في العصر الحديث جامعةً بين علوم الشرق وعلوم الغرب معًا قبل سبعين عامًا.

أحمد الطيب، حاور الآخر بحكمةٍ وانفتاحٍ وحبٍّ، والتقى مع رموز الأديان السماوية وأقطابهم، وأهل الحضارات من أجل إنقاذ البشرية من أسْر الإرهاب والدمار والتخلف والتطرف والحروب؛ ولإيجاد صيغةٍ من التفاهم والتعايش بلا صراعٍ ولا تمزُّقٍ ولا تشرُّد ولا حروبٍ ولا تكفيرٍ ولا إرهاب؛ فالإنسان-حسب فكره وفلسفته ورؤيته الثاقبة- مُكرَّمٌ في أي لغةٍ أو دينٍ أو عِرقٍ أو طائفةٍ أو مذهبٍ أو دولةٍ؛ فلا يجب السماح لأحدٍ على الإطلاق بإثارة النعرات أو الاختلافات أو الأفكار المغلوطة بين أهل الحضارات والأديان والطوائف والمذاهب، ولكنْ يجب الالتقاء والتقارب على جناحٍ من المودة والتفاهم والتسامح والتحابّ والتشارك والتحاور البنّاء؛ للقضاء على الفِتَن والفوضى الهدّامة الحالية.

أحمد الطيب الإنسان النبيل في هذا الزمان الذي لا يتقاضى راتبًا، بل يعمل حِسبةً وقُرْبةً إلى الله تعالى؛ فقد نذر نفسه لخير الناس ونفعهم وسعادتهم في الدنيا والآخرة؛ فعاش زاهدًا في كل شيء، ولم يطلب لنفسه سوى مرضاة ربِّه، ونهضة العرب والمسلمين؛ فعمل من أجل هذا الهدف الصعب، وواصل الليل بالنهار، والصيف بالشتاء؛ للقضاء على أمراض المسلمين الفكرية والثقافية بالحكمة والموعظة الحسنة. فاللهمَّ احفظه لنا، واكلأه ببِطانة الخير والعلم والأخلاق، ووفِّقه لمشروعه الإصلاحي الكبير المنشود، الذي يعود نفعه وخيره على العرب والمسلمين والعالم أجمع.. اللهمَّ آمين.