”أبدا نادرا أحيانا دائمًا“.. الحياة والموت في أربع كلمات
«أبدا ًنادراً أحياناً دائمًا» أو «Never Rarely Sometimes Always» هو الفيلم الروائي الطويل الثالث الذي تخرجه وتؤلفه الأمريكية إليزا هيتمان، وعنه حصدت جائزة لجنة التحكيم الكبرى (الدب الفضي) بمهرجان برلين السينمائي في نسخته الـ70، وجائزة لجنة التحكيم الخاصة بمهرجان صندانس السينمائي للأفلام المستقلة مطلع العام الجاري.
صدر الفيلم في 13 مارس الماضي، وهو واحد من أكثر التواريخ سيئة الحظ في تاريخ هوليوود.
حيث بدأت صالات السينما في الإغلاق بسبب أزمة فيروس كورونا، مما أدى إلى رفعه من شباك التذاكر المحلي، لتقرر بعدها الشركة المنتجة «Focus» طرحه في 4 أبريل الجاري عبر خدمة (VOD) لاستكمال موجة الإشادات التي أحاطت به عقب عرضه في صندانس وبرليناله.
الفيلم يعالج دراميا أزمة تعيشها النساء في كنف واقع مضطرب تسوده الأفكار الذكورية السامة، إنه عمل محزن وملائم لتلك الفترة، يساعده اهتمام "هيتمان" الهادئ بالتفاصيل والقدرة على توصيل رسائل عاطفية كبيرة من خلال الاعتماد على الحد الأدنى من الحوار.
فهي تفتخر دائما ببساطة نصوصها وتضع القصة الأساسية بطريقة يسهل تصورها على المشاهد، ثم تأخذ في التوسع مع مرور الوقت بطرق لا يمكن التنبؤ بها بفضل إيقاعها ووتيرتها الطبيعية.
كذلك يقدم نظرة موضوعية على قضية ملحة ومسيسة دون الانزلاق إلى الميلودراما البكائية والأحكام المسبقة.
فقد تأثرت "هيتمان" بقضية طبيبة الأسنان الهندية سافيتا هالابانافار، التي توفيت في عام 2012، بعدما حرمتها الحكومة الإيرلندية من إجراء إجهاض منقذ للحياة. لذا حاولت المخرجة التركيز على الحواجز والعقاب التي تواجهن النساء خلال تلك الرحلات المروعة من أيرلندا إلى لندن – حيث يسمح القانون - لإجراء العملية في يوم واحد.
إنها لحظة خاصة تتفجر خلالها الأزمات على الشاشة بطريقة طبيعية غير متوقعة.
«أبدا نادرا أحيانا قهر على أنغام أغنية يتبع الفيلم قصة (أوتمن)، تجسدها الوافدة الجديدة سيدني فلانيجان، فتاة مراهقة من ولاية بنسلفانيا تبلغ من العمر 17 عاما، تكتشف أنها حامل في شهرها العاشر دون أن نتطرق للكثير من التفاصيل حول هذا الأمر.
تقرر (أوتمن) الذهاب إلى ولاية نيويورك لإجراء عملية إجهاض، حيث تشترط قوانين ولايتها الحصول على موافقة الوالدين. تتدبر الفتاة المال اللازم بمساعدة ابنة عمها (سكايلر)، تؤديها تاليا رايدر، وتخوضان رحلة محفوفة بالمخاطر، تعزز من قيم الصداقة والشجاعة والتعاطف.
يفتتح الفيلم على عرض للمواهب الغنائية بأحد المدراس الثانوية، نشاهد خلاله بطلتنا (أوتمن) تؤدي أغنية كلاسيكية بعنوان "He's Got The Power" لفرقة "The Exciters" الستينية الشهيرة، لكنها تؤديها بإيقاع هادئ وحزين على عكس طاقة بريندا ريد في الأغنية الأصلية. أثناء أدائها للأغنية التي تقول كلماتها: "يجعلني أفعل أشياء لا أريد القيام بها .. يجعلني أقول أشياء لا أريد أن أقولها .. وعلى الرغم من أنني أريد الانفصال .. لا أستطيع .. لديه القوة، قوة الحب"، يناديها مراهق من الجمهور بـ"العاهرة"، ليعم الصمت المكان وتصاب (أوتمن) بالجمود للحظات، ثم تواصل الغناء حتى النهاية وسط تصفيق الحضور.
ربما هذا الشاب الذي نعتها باللفظ البذيء هو من أقام معها تلك العلاقة العابرة، ولكن "هيتمان" لا تعطينا الكثير من المعلومات حول هذا الموضوع طوال أحداث الفيلم، فهي تريد أن توجه انتباهنا منذ البداية لتلك الروح المحاربة، التي على الرغم من تعرضها للإهانة علناً أصرت على الاستمرار وإنهاء أغنيتها، إنها افتتاحية شديدة الخصوصية لفتاة لا تعرف معنى الاستسلام.
الدقائق العشرين الأولى – التي تسبق رحلتنا إلى نيويورك - يمكن أن تكون الأصعب في الفيلم، نظراً لأن "هيتمان" بحاجة إلى القليل من الوقت لتأسيس حياة (أوتمن) في بلدتها الريفية الفقيرة.
فحرصت على إيجاد توازن بين حياة بطلتها العائلية والعملية والمكان والأزمة، ما بين وقتها في مركز الرعاية الصحية، ووقتها بمفردها، ووقتها في العمل، ووقتها مع عائلتها.
هناك الكثير من الخطوط التي يجب دمجها في هذه المدة الزمنية القصيرة للحصول على إحساس غني بعالمها.
«أبدا نادرا أحيانا حياة من رحم الموت إن "هيتمان" لا تحاول إطلاق الاحكام المسبقة على شخصياتها أو حتى استمالة الجمهور للتعاطف مع بطلتها، وهي من نقاط القوة في السيناريو.
تعمدت عرض القضية بشكل مجرد من منظور فتاة استطاعت أن تضفي حولها هالة شديدة الخصوصية، لا تبوح ولا تشارك أسرارها حتى مع أقرب أصدقائها (سكايلر)، فكلا منهما يحترم خصوصية وحدود الآخر.
فهي تريد غمر الجمهور في التجربة الذاتية للإنسان وتكريم رحلة الفتاة العاطفية بحيث لا تجعلها مخيفة أو سهلة بشكل مفرط.
في الغالب، تركز "دراما الإجهاض" على الجوانب المخيفة منه والأمور التي يمكن أن تسير بشكل خاطئ، لكن "هيتمان" تتعرض أكثر إلى العوائق التي تعترض الطريق وتحول دون الوصول لذلك، مسلطة الضوء على العوالم السفلية لعيادات الإجهاض ونظرة المجتمع الدينية لهذه القضية.
مستندة إلى تجربتها الخاصة التي خاضتها في أوائل الثلاثينيات من عمرها. وفي محاولة منها لتعزيز قضية العنف المجتمعي ضد المرأة، قامت المخرجة بتصوير كل النماذج الذكورية في الفيلم بصورة سيئة بالاعتماد على عناصر ملموسة، بداية من الشاب الذي وصفها بـ"العاهرة" أثناء الحفل المدرسي، ووالدها الذي يتعمد التحرش اللفظي أثناء مداعبة كلبته أمام الاسرة، وصولاً إلى السوبر ماركت الذي يعملان فيه، حيث تتعرض احداهن للتحرش من جانب أحد الزبائن، ومدير الخزينة الذي اعتاد تقبيل ايديهن عقب تسليم الحصيلة يوميا، فالجمهور يرى ويسمع المدير فقط من خلال نافذة محجوبة، لذا فهي تركز على السلوك المسيء الذي تتعرض له الفتاتين بشكل اجباري حتى لا يفقدوا وظائفهم، وخلال رحلتهم لنيويورك يتعرضان للتحرش والابتزاز من أحد الشبان.
وعلى الرغم من أن (أوتمن) كانت تستخدم ابنة عمها كذريعة لسفرها، إلا أنها تكتشف خلال رحلتها أن لا أحد يهتم بشأنها. فعندما أصيبت بنوبة فزع قبل اجراء العملية اتصلت بوالدتها على الفور، التي بدا وكأنها مندهشة لعدم اعتيادها على مثل هذا التصرف من ابنتها، لكن عندما تغلق الابنة الخط لا تحاول الأم الاتصال بها مجدداً.
هذه الفتاة ليست معدومة المسؤولية أو متبلدة المشاعر، انها فقط صغيرة ومرتبكة ويائسة، لا تعلم كيف تسير الأمور خارج حدود محطيها الضيق لدرجة أن دجاجة تفوقت عليها في لعبة (X/O)، فعندما علمت انها حامل قامت بتغيير لون شعرها ووضع الـ"بيرسينج" في أنفها، هي تحاول استعادة جسدها المفقود والسيطرة على حياتها بمفردها بشتى الطرق، حتى لو كلفها ذلك كل ما تملك. تتكشف أزمة (أوتمن) من خلال المقابلة التي تجريها مع الأخصائية الاجتماعية قبيل إجراء العملية، حيث تقوم بطرح عدد من الأسئلة في شكل استبيان حول نشاطها الجنسي وتطلب منها الرد بكلمات "أبدًا، نادرًا، أحيانًا، دائمًا"، والتي استمد منها الفيلم عنوانه.
لكن المقابلة تأخذ منحى أكثر صرامة عندما تسألها "هل تم إجبارك على ممارسة الجنس ضد إرادتك؟"، لتنهار الفتاة بشكل تدريجي. إن هذا السؤال اعادنا إلى ماضي مظلم سحيق لا نعلم عنه شيء لكننا نشاهده في أعين الفتاة المغرغرة بالدموع، ماضي يدفعنا للتساؤل هل تم ممارسة عنف ضدها بالفعل؟ هل تمت علاقة الحب رغما عنها؟، وهو ما يمكن أن نستنبطه من كلمات الأغنية في بداية الفيلم.
فيلم «Never Rarely Sometimes Always» لا يتمحور فقط حول كونه "دراما إجهاض"، إنه يتعلق بكيفية اضطرار الشابات إلى تحمل الكثير من القذارات لمجرد وجودهن في العالم. فهن معرضات للخطر تماما مثل (أوتمن)، بعضهن يواجهن حملًا غير مخطط له، والبعض الآخر يتعرض لسوء المعاملة أو التنمر أو الإجبار على ترك الدراسة لتأمين المعيشة. بالإضافة إلى الضغوط المجتمعية التي لا تنتهي، لدرجة لا تمكنهم حتى من الحصول على الرعاية التي يحتاجونها لاتخاذ قرارات بشأن حياتهم الخاصة.