«الحرفة.. المسؤولية .. والحيادية» .. ثلاثي أضواء العمل الصحفي
على ظلال هذه المعادلات المهتزة وغير المستقرة والمتغيرات المستمرة، في عالم الصحافة والصحفيين؛ طرحت بعض الأسئلة أو بالأحرى هي التي طرحت نفسَها على طاولة نقاش "فيسبوكي" مع بعض زملاء تلك المهنة العريقة مهنة الصحافة ..
جاء النقاش في محاولة لعرض وجهات نظر مختلفة ورؤى متباينة عن واقع صاحبة الجلالة .. فكانت اسئلتي وتساؤلاتي كما يلي: سؤال يبحث عن تعريف معاصر ودقيق للصحفي؟ ثم أبعاد مهمته وحدود مهنته؟ وسؤال آخر يبحث عن توضيح الحدود والضوابط التي تُظهر التباين في المهمات بين مهمة الصحفي ومهمة السياسي؟! يبحث أيضا في تاريخ التزاوج بين الصحافة والسياسة!؟ وهل كان ذاك الزواج شرعيا أم غير ذلك؟!
وسؤال ثالث يبحث عن الحرفة والمسؤولية المهنية والحيادية في عالم الصحافة.. وسؤال رابع عن السلطة الرابعة وهل هي واقع عملي أم اسطورة عفى عليها الزمن وعفاها الواقع؟!
وسؤال أخير يستفسر عن تصدعات وشروخ في حوائط الصحافة الورقية ومن يتحمل فاتورة وأعباء ترميمها "إن كان من الترميم جدوى وفاعلية"؟!.
طرحنا التساؤلات السالفة الذكر على مجموعة من زملاء المهنة وأصحاب المهمة الشاقة، على بعض رموز الصحافة أصحاب الفكر والرأي والخبرة والممارسة.
بين الصحافة والسياسة ..علاقة حميمة وشرعية
في البداية يقول الكاتب الصحفي والروائي علي بريشة، يعتقد بعض الناس أن مهنة الصحفي تختلف من مجتمع لآخر، فالصحفي في المجتمع الشمولي غير الصحفي الباحث عن الحقيقة في المجتمع الحر والصحفي الذي يلهث وراء أصحاب المال في المجتمع الرأسمالي غير الصحفي الذي يلهث وراء أصحاب النفوذ في المجتمع الاشتراكي غير المراسل على خط النار.. وبالتالي هؤلاء لهم الحق في تفكيرهم وتصنيفهم للصحفي حسب مجتمعه ونظامه ودرجة الحرية فيه.
لكن في الحقيقة أنا عندي تعريف مختلف لجوهر وطبيعة مهنة الصحفي والتي لا تختلف من مجتمع لآخر، فالصحفي مرآة للمجتمع، فلا توجد مهنة يمكن أن تكون مرآة للمجتمع سوى مهنة الصحفي، فهو المرآة الصادقة الواضحة لمجتمعه.
وأضاف "بريشة"، الصحفي قد يكون غشاش و"أولعبان" ومنافق ومحترم وصادق وأمين و"نصاب ووقح" ومهذب وفيلسوف ومتعلم وجاهل وسوقي وابن ناس ومتدين وغير متدين، ولا غرو من كل ذلك فهو في البداية والنهاية إنسان بشر، ويخضع لطبيعة البيئة والمجتمع الذي نشأ به.
فالناس عادة تحكم على الصحفي بتلك الصفات لأنها غير مدركة أن طبيعة هذا الصحفي أو ذاك هو انعكاس لصورة المجتمع، أنا أرى أن ليس للصحفي أخلاق محددة.
وعن علاقة الصحفي بالسياسة فيقول "بريشة"، في تاريخنا الصحفي نماذج مختلفة من الصحفيين الخارقين الذين استطاعوا أن يكونوا بارزين في أكثر من نظام سياسي وأكثر من مجتمع، عندما تقرأهم بدقة ستعرف كم كانوا (بحسناتهم وعيوبهم) مرآة واضحة لكل فترة عاشوا فيها .. هيكل ومصطفى أمين وأستاذهم التابعي والحمامصي وإبراهيم نافع وخالد صلاح.
أما عن التزاوج بين الصحافة والسياسة فهي علاقة حميمة جدا لكن لا يصح أن تظل علاقة شرعية .. لأن جزء مهم من الصحفي يموت لما يحصل له شيء من اثنين .. إنه ينتمي لحزب سياسي .. أو إنه يأخذ منصب رسمي كبير .. وهذا بالضبط ما حصل للأستاذ محمد حسنين هيكل بعد ما عُين وزيرا لفترة محدودة من حياته، وبالتأكيد الوزارة لم تمنحه إضافة بل أخدت منه أشياء مهمة من الصحافة.
أما مقولة إن الصحافة سلطة رابعة فهي حقيقة وليست أسطورة.. هي فعلا سلطة رابعة لكن عندما تتواجد ثلاث سلطات منفصلة ومستقلة .. فعندما لا يوجد فصل بين السلطات الأساسية وتبقى كلها في قبضة الحكم الشمولي وعندئذ تعتصر السلطة الرابعة في نفس القبضة، كما في كوريا الشمالية.
الورقي أزمة بلا حل قريب
وعن أزمة الصحافة الورقية ومعضلات الاليكترونية يقول الكاتب الصحفي عبدالسلام فاروق، صحيح أن الصحافة الورقية تمر بأزمة كُبري وأن هذه الأزمة عالمية واسعة النطاق، فلا ينبغى أن ندفن رؤوسنا فى الرمال فندّعى أن الأزمة لا وجود لها، ولا أن نبالغ إذا قلنا: "أنها أزمة بلا حلّ قريب!"، خاصة بعد استحواذ الصحافة الرقمية على اهتمام قطاعات واسعة من المتابعين من مختلف الشرائح العمرية والاجتماعية، رغم افتقارها إلى المصداقية والتوثيق واعتمادها على الشائعات والإثارة الزائفة. والسبب أنها نوع رخيص من الإعلام قليل الكلفة لمستخدميه، كما يتميز بالمرونة وتجدد المضمون وجاذبية الشكل.
فالخبر الواحد قد يتجدد على مدار الساعة بأكثر من شكل وطريقة، مصحوباً بالصور ومقاطع الفيديو، لهذا تحظى الصحافة الرقمية بجمهور عريض يفوق الصحافة المطبوعة بكثير.
ورغم تلك المزايا لم تتمكن أكثر المؤسسات الصحفية من استغلال النوافذ الإليكترونية لتحقيق عوائد ومكاسب مجزية. فرغم أن الصحافة الإليكترونية هى المفضلة لدى الجمهور بسبب مزاياها.
إلا أنها تُعدّ الأسوأ لدى المؤسسات الصحفية بسبب عيوبها الكثيرة : فالصحيفة الإليكترونية تتطلب توظيف كوادر صحفية وفنية من المتخصصين يعملون على مدار الساعة، ما يعنى أنها عالية التكلفة، خاصةً وأنها تحتاج للتحديث الدائم بالخدمات والتطبيقات والبرامج، كما تحتاج للتسويق والمتابعة اليومية لتحقيق الانتشار، وهى أمور لا تتوافر للكثير من الصحف، مما يضطرها للإكتفاء بالصحيفة الورقية، أو بموقع إخبارى شبه مجانى لا يحتوى على أية تطبيقات أو تحديثات أو موضوعات متجددة .
عيش وكُل عيش
وكعادته وبإختصار كتب الدكتور طارق الشوربجي، مدرس الإعلام في جامعة طنطا :
الصحافة حرية،
الصحافة مبادرة،
الصحافة رقابة،
الصحافة سلطة،
الصحافة رؤية مستقلة،
الصحافة مزعجة،
لكن الرؤي المستقلة أصابها رمد !
ولا أحد يتحمل الإزعاح أو يسمح به أو يقبل بأصحابه .
لك ان تحكم علي الصحافة أو تحاكمها وترثي لها أو تدعو عليها أو تتركها لحال سبيلها! ، فالميت لا تجوز عليه إلا الرحمة والحي يعيش و يأكل عيش.
مطلوب عودة الصحفي السياسي
يقول محمد شمروخ، الكاتب الصحفي بالأهرام، نحن بحاجة إلى الصحفي في هذه الأيام أكثر من أي وقت آخر خاصة مع تقدم وسائل التواصل الاجتماعى سادت فوضى معلوماتية، خلطت الحابل بالنابل، ولذلك تبدو الحاجة إلى عين تتفحص وتفرز وتسلط الضوء على الحدث المطلوب التركيز عليه، بعد أن صار نشر المعلومات متاحا للكافة مما عمق من هذه الفوضى التى تصعب من مهمة الصحفي، وتضيف على كاهله فوق ما تحمل به.
فمازال الصحفي هو الموكولة له مراجعة وتمييز الصالح من الطالح من الأخبار وتحليل الأحداث تحليلا لا يميل لفئة دون أخرى، أما الدور السياسي للصحفي فهو دور مفروض عليه فرضا لأنه المقدم عن الرأي العام ليكون حاضرا عنها وضمانات لعدم اللعب بمقدرات الجماهير بعيدا عن الصفقات السياسية والمصالح الحزبية لذلك لابد من عودة الصحفى السياسي وليس السياسي الصحفي الذي يتكسب من موقعه لصالح نفسه أو هيئته التى يمثلها.
أما الجدية والحرفة والحيادية فهي محكومة بالضمير الشخصى مهما بلغ من دقة الضوابط ولكن ظاهرة الصحفي الناشط التى شهدتها بعد أحداث ٢٥ يناير التى ارتقى مسرحها طعمة من الجهلاء الذين انفردوا بالمشهد تحت زعم العمل الصحفي برغم عدم التزامهم بأى من قواعد المهنة المعروفة.
وعن الصحافة الورقية فما زلت ادعم رؤية أن السوق الإعلامية عطشى للصحافة الورقية لتطهير الوعي من عبث السوشيال ميديا التى أغرقت العالم في فوضى عارمة لا ينقذ الوعى الثقافي والإعلامي منها سوى الصحافة الورقية.
الصحفي الحقيقي لم يعد موجودا
وترى الكاتبة الصحفية سحر عبدالرحيم، أن أى صحفى تريد أن أحدثك.. عن الصحفى الناجح المشهور رغم أنه لم يخط بقلمه سوى الأكاذيب والشائعات.. أم الصحفى المنافق المتملق المتصدر للواجهة، أم الصحفى الغلبان الذى ينتظر مكافأة النقابة للإنفاق على أسرته ويؤثر السلامة.
أم الصحفى المشاغب للسلطة الذى يستطيع أن يجمع القراء حوله والذى لم يعد له وجود على الساحة.. أم الصحفى الوصولى الذى يمكن أن يبيع أصدقاءه من أجل الوصول لأعلى المناصب.. أم الصحفى الذى باع وطنه من أجل حفنة ليرات أو دولارات ويسب ويلعن فيها من الخارج.
وفى رأيى أن الصحفى الحقيقى أصبح عملة نادرة خصوصا بعد أن احتلت صحافة المواطن الصدارة وأصبحت مصدرا رئيسيا للأخبار فى العالم كله.. فكل من يكتب خبرا وينقل صورة بكاميرا موبايل صحفيا ينتشر ما كتبه فى لحظة عبر وسائل التواصل الاجتماعى وعبر المواقع الالكترونية.. وتتناقله الصحف وبرامج التوك شو ليصبح مادة إعلامية طازجة.
فالصحفى الحقيقى لم يعد موجودا بعد أن أصبح حظر النشر فى بعض الموضوعات الهامة سيفا مسلطا على السلطة الرابعة.. لم تعد هناك خطوط واضحة لأى شيئ واختلط الحابل بالنابل.. وسقطت كل النظريات التى تعلمناها في مناهج دراستنا .
الحيادية كلمة وهمية
يذكر الكاتب الصحفي محمود الشناوي "وكالة أنباء الشرق الأوسط" فيقول : لا يستطيع أحد أن يضع تعريفاً جديداً للصحفي فمازالت مهمته كما هي وما زالت الصحافة هي مهنة البحث عن المتاعب لكنها في النهاية مهمة على قدر مشقتها على قدر أهميتها فهي المهنة الجليلة التي لا غنى عنها.
أما عن الحدود الفاصلة بين الصحفي والسياسي لا يوجد حدود كبيرة، فالسياسي هو صانع الحدث والصحفي ناقله ومفسره، التكامل بين المهمتين يخدم الدولة والمواطن، والزواج بين الصحافة والسياسة أمر طبيعي فهما مكملان لبعضهما البعض، وهذا الزواج مثله مثل أي زواج، إما أن يكون منتجا اذا توافرت له الظروف الشرعية وابتعد الزوجان عن الغش والتدليس، وإما أن يكون زواجا باطلا عندما تشويه المصالح، وينتج أبناء غير شرعيين، أكبرهم الفساد.
وعن الحيادية يقول "الشناوي"، كلمة حياد هي كلمة وهمية، وفي اعرق الديمقراطيات في العالم والعواصم المصنفة كساحات للحرية لا يوجد حياد، الصحيفة والصحفي حتى إذا بدت عليهما حيادية من وجهة نظر طرف سوف يبدو غير حيادي وربما معادي من الطرف الآخر، لكن هناك ما يمكن أن نسميه الضمير المهني، والذي غالبا ما يصطدم بمصالح مالك الصحيفة سواء كانت ملكية خاصة أو ملكية حكومية أو مؤسسية، والنماذج غالبة شرقا وغربا.
وعن أزمة الصحافة الورقية يرى الشناوي أن هناك العديد من الأسباب التي أدت إلى إنهيارها؛ أولها عدم وجود مهنية حقيقية أو كتاب يمكن أن يرتبط بهم القارىء، وأنا اقف بالضد تماما بالنسبة للرأي القائل إن التكنولوجيا وانتشار وسائل التواصل الاجتماعي هي التي أضعفت الصحافة الورقية وتهدد بانهيارها، لأن توزيع الصحفي في الدول التي سبقتنا تكنولوجيا تقدر بالملايين.
أما عندنا في مصر فقد فقدت الصحف الورقية مصداقيتها وأصبحت لا توزع مجتمعة اكثر من 400 ألف نسخة، ونحن بحاجة ماسة لاستعادة ثقة القارىء، وتطوير المحتوى وتقديم خدمة صحفية تليق بعراقة وتاريخ مهنة الصحافة في مصر، أما من يتحمل فاتورة ترميم ما حاك بالمهمة من تصدعات، بالمسئولية مشاركة بين الدولة والصحفيين، ونقابة الصحفيين مسئولة بشكل مباشر في رأب الصدع بين مهنة الصحافة والدولة من جهة، وبين مهنة الصحافة والمجتمع من ناحية أخرى، والصحفي مسئول بشكل مباشر عن تطوير قدراته واستعادة ثقة القارئ.
ومازالت الأسئلة قائمة.. وأرى أن كل سؤال يحتاج إلى عدد من تحقيقات مستقلة للإجابة عن كل تساؤل . ورغم كل ذلك تبقى الصحافة منارة عظمى أضاءت للشعوب دروبها وعقولها معا، ولا يمكن أن تعود المجتمعات إلى عصور الظلام والتعتيم.