جريدة الديار
الجمعة 29 مارس 2024 02:30 مـ 19 رمضان 1445 هـ
بوابة الديار الإليكترونية | جريدة الديار
رئيس مجلس الإدارة أحمد عامررئيس التحريرسيد الضبع

علي الجنابي يكتب: *سَأُحاجِجُكِ عِندَ ذي العَرشِ أُمَّاهُ*


يَتَخَيَّرُ القَلَمُ إحياناً خَلَجاتَهُ على هَواهُ, رَغمَ أنفَ حامِلٌ له, سقاهُ مِداداً ورعاهُ. فهاهو يتفَلَّتُ من حبسِ أناملِي وفَكَكَّ عُراهُ, فهَوى فَزَوى فكانَ أسفَلَ الطاوِلَةِ مَرماهُ, ثُمَّ ضَوى إلى ظَهرِ إبهامٍ ذي (وَشمٍ) فيروزي طويلٍ مَجراه, ثُمَّ لَوَى بلِسانِهِ و روى رَناه:
أُمَّاهُ ,كيفَ أنتِ أُمَّاهُ ؟ ها نَحنُ ذا في عَرَصَاتِ ذِي العَرشِ المجيد, وَكُلَّ شَيّءٍ عَدَّهُ وأحصَاهُ , فإن يَكُ فَتيلٌ فمنسوخاً إذ نحنُ نَسيناهُ. سَأُحاجِجُكِ في أمرٍ حَدَثَ على ظَهرِها في عُمُرٍ سَوِيَّاً مَخَرنَاهُ. فِي شِتَاءِ آخِرِ عَامٍ مِن سِتينِينَاتِ قَرنٍ رُبَمَا إِختَطَفَنا, رُبَمَا نَحنُ إِختَطَفناهُ. قَرنٌ كان نصيبي شَطرَ خِتامِهِ, ونَصِيبُكِ مِنهُ شَطرَاهُ . أَوِتَذكُرِينَهُ أُمّاَهُ !
هَزهِزي بِرأسكِ, أو رَجرجي برَأسي وكأنّي بِحُضنِكِ أيامَ دَهرٍ مَرقناهُ, أن :نَعم أذكَّرُ كَبداهُ .
أفَتَذكُرينَ,إذ نحنُ في مَقطَنٍ الطّينِ هنالكَ في الدُّنيا قَطَنَّاهُ, مَقطَنٌ على أطرافِ بغدادَ به يَضيقُ الصّدرُ, والحِسُّ يأباهُ , فَنَهارهُ صِراعٌ بينَ حَوايا البُطونِ وإِسدالِ الجُفونِ, وكانَ غَريباً مَأواهُ, وليلهُ نِزاعٌ بينَ زوايا السّكونِ وسَرابِ الظّنونِ, وكانَ مَريباً دُجاهُ. كنتُ أنا فيه كَسُنبلةِ قَمحٍ تُسحَقُ سَحقاً بينَ رُحاهُ ؟ و كُنتِ أنتِ بهِ مَسرورةً وكانَّهُ قَصرٌ مُمَرّدٌ لِشاه, ومُزخرفٌ بزينةِ عُرسٍ لِيَعرُسا فيهِ الليلةَ كِلا وَلَدَاهُ . أفَكانَ عن رِضىً مِنكِ ,أم هرباً مِن بأسِ ريفٍ وحَرثِهِ و ضَناهُ ؟
تَعِسَ من مَقطنٍ بئيسٍ تَّعيسٍ إيّاهُ! إذ أَتمَمتُ سَبعَ حِجَجٍ أُمّاَهُ , وإذ يَمَمتُ وَجهيَ صَوبَ مُستَنقَعٍ كانَ خلفَ الدّارِ مُرساهُ , وإذ وَلَجتُ فيهِ بِبَهيجِ شَغَبٍ وشَغَفٍ كانتِ النّفسُ تَهواهُ, إبتِهاجٌ ما عهدتُهُ إلّا عِندَ القياصرةِ ألِفناهُ ! رُبَما عند قَيسٌ إن مالت إليهِ ساعةَ ضُحىً لَيلاهُ. مَرَجتُ ماءَهُ فأمسى ثقيلاً خَوْضُهُ على غَضاضةِ ساقينِ إلّا بِإكراه, فكانَ الجزاءُ إلتِواءَ إبهامي فَتَوَرُّماً عليهِ بَناهُ , فما العِلاجُ يَومَئذٍ أمّاهُ ؟ وَخْزٌ بإبرَةٍ ؟!أذاكَ زَرعُ الطّبِ عِندكُمُ وذاكَ كانَ جَناهُ!
وَيْ ! كيفَ عَلِمَ غُلامي بذاكَ ومَن ذا الذي أنباهُ! وأنّى ليَ نِسيانُهُ أيُّها الوَغدُ وفي كُلِّ خَوضٍ لاهٍ ؟
بلى بُنيّ , ساعتئذٍ طَهَّرَتَاكَ أختاكَ مِمّا حُمِّلتَ مِن أدرانٍ لَقيناهُ , ثُمَّ طَرَحَتَاكَ أرضاً على تَمرُّدٍ مِنكَ وإكراه , ثم جَهَّزَتَا إبرَةً وسخَاماً من مَوقدِ نارٍ بِتراب الدّارِ دَفَنَّاهُ, ثُمَّ إنطَلقَ وخزُ إبرتي على طولِ خَطِّ قَدَمِكَ عن إبهامكَ ايّاهُ .
نَعم أمّاهُ, نعم فلا إِسْتِجَارَة نَفَعَت من نَغزٍ وَوَيلاهُ , ولا إِسْتِعانَة شَفَعَت من نَهزٍ وَأوَّآهُ , ولا إِسْتِغَاثة دَفَعَت من وَخزٍ وَوَجعاهُ !
بَيدَ أنّكَ شُفيتَ من الوَرَمِ بُنَيَّاهُ!
بل شُفيَ بذاتهِ أمّاه, وما في وَخزِكِ شِفاء من إنتفاخٍ وبَلواه ! أما كانَ آنئذٍ من مَشفىً لإبهامي يِتَبَنَّاهً ؟ أما رَقَّ فؤادُكِ لصَرخاتي : أوّآه ؟ يا لِتَحَجُّرِ قلبٍ بينَ جوانحِكِ أمّاهُ ؟
عجبي أيُّها الغلامُ وما حَدَّثتَ بهِ من أمرٍ مشينٍ وعيباه!
ما عُدّتُ غلاماً أمّاهُ ,وبلغَ بيَ الشّيبُ مُنتَهاهَ, ونحنُ عندَ ذي العَرشِ, وكلُّ في كتابٍ لا يُغادرُ صراخي ولا نَغزَ مَخيطِكِ ولا سِواهُ, وسَأحاجِجُكِ على الصراخِ أمّاهُ, سَأحاجِجُكِ على صراخِي أمّاهُ. لا ظلمَ اليوم, وكلُّ راضٍ بِقضاهُ ؟
وَيْحَ عيني ! غُلامٌ شَقيٌّ أذاقَني عَلقماً في صِباهُ! وهاهوَ يُذيقنيه في أُخرَاهُ ! قد تعلمُ أنَّ نَغزاتي- بُنَيَّ- مَرَّت بِخافقي قبلَ أن تهبطَ على إبهامِكَ إذ كانت تَتَوخاهُ ؟
لا شَأنَ ليَ بِخافقِكِ وأساه, أَفَحَسِبتِه علاجاً أمّاهُ ؟ لاعُذرَ لكِ وعَمَّا قليلٌ سَتَفتحُ المَلائكُ بابَ الحسابِ ولكُلِّ نَبَإٍ مُستَقرُّهُ وعُقباهُ , وسَتصدحُ بميزانِ قسطٍ بحباتِ خردلٍ حِسابُهُ وجزاهُ , فإن تكُ ذرةً من شَرٍّ لن تَندَرِسَ ولن تُهملَ في مَداهُ ؟
الحَقُّ بُنَيَّ أقولُ:
إنَّ دهرَنا كانَ ساعةً نلوكُ فيها رغيفَ خبزٍ, وساعةً فيها الرّغيفَ نَنعاهُ, والرُّز كان أسطورةً أو كأنّهُ نَبَأٌ من أهلِ بغدادَ سَمِعناه , ويومَ أن مُنِحنا الرّزُ فَتَمَلَّكناهُ, زارنا داءُ (السّكريّ) فَمُنِعناه! فانَّى بدرهمَ لمَشفىً نَقصِدُهُ ونحظاهُ! أفَحَقّاً مُحاجِجي و للجَبَّارِ يَبُثُّ صدرُكَ بشكواهُ؟ فوَا ثَكُلاه ! وَيا لِسَوءِ مُنقَلَبي عند ربّي وسُوءِ عُقباهُ ؟ أفتَغَافَلّتَ عن لبنِ نَجداي يامَحلاهُ ! أفتَجَاهلّتَ همسَ صَدري وبهاهُ ! أم أنّكَ جفَلّتَ من سَكَنِ حُضني ودِفأهُ وهناهُ , وإذ ظهري من البَردِ مُرتَجفٌ وفَخِذايَ وكَتِفاه؟ أم أَراكَ تَناسيتَ حَلوىً خَبَّأتُها فَلَوَّحتُ بها:
(حَيهلا الشّقيّ وحَيهلا بنبعِ النّبضِ وسُقياه ). فَواهٍ ! إنَّ وَلَدي يُحاجِجُني وهوَ مُشتَمِلٌ ! ماهكذا ياغُلامُ تُرفَعُ السَّوْآه !
تتَرَجَّلْ بُنَيَّ من حصانِ زَعمِكَ ودعواهُ , وأصفحْ وإذَكَّرْ حنانَاً أمِّكَ في صبحهِ وحين مساه ؟
حنانُكِ - أمّي - كان فطرةٌ بِوحيِ من الخلّاقِ وهُداهُ. جِبِلّةٌ فَعَلتُها أنا مع ذُرّيَتي فلا تَنظري جدواهُ , وأمّا الصفحُ فَنَعَم, لكنّهُ صفحٌ مَشروطٌ مُقتَضاه؟ أنصتي أمّاهُ:
أشهدُ أنَّ دعاءَكِ كانَ مُستجاباً وما ذهبَ يوماً سداهُ, وأنَّ النّاسَ تمنَّوا منكِ دعاءً ولو لمرةٍ بِنَداهُ ونِداه , وكنتِ تَستَسقينَ لهم فَيُغِيثكِ في ومضةٍ من سماه. أشهدَ أنّ ثناءَكِ على ربِّكِ شبهٌ بثناءِ الأولينَ في فحواهُ وسناه ! دُعاءٌ بَليغٌ- رغمَ أمِّيَةٍ فيكِ - في سؤلهِ و رجاه, ما دَندَنَ إلّا في فَضاءِ رضوانِه و رُحماه , وخَلا مِمّا يَسالُهُ الناسُ إلحَافَاً من مالٍ وبنين وأشباه..
كنتُ أنهَرُكِ بِوقاحةٍ وذَمٍّ فلا تَتَضَجَّرين : وَاأفَفَاهُ! وكنتُ أقهَرُكِ بِقباحة وغَمٍّ فلا تَتَفَجَّرين : وَاعقوقاهُ! أكادُ أجزِمُ أنّ مروركِ على الصِراطِ بَرقَاً أمّاهُ, فَدَعِيني أحُاجِجُكِ لأغترفَ من نهركِ غَرفةً تُنقِذُني من جَحيمٍ ولَظَاهُ, أو أن تَشفَعي ليَ بِما عَهِدَ عندكِ ألّا يُخزِني هاهُناه ؟
إذهَبي,إذهَبي أمّاهُ, هاهم الملائكُ قاصِدينَكِ مُستَبشرينَ أمّاهُ, تَوَسَلِي بِهِ ولَهُ بلَهفَاه فقولي :
( أنَّ وَلِدي كَبدي بوجهٍ واجفٍ, وبصرٍ راجفٍ هوَ هوَ بِقامتِهِ وسيماهُ, ذاك هناكَ يَدعُو : واثُبوراهُ! وأنِّي أعُوذُ بكَ ان اسألكَ ماليسَ لي بِهِ عِلمٌ رَبَّاهُ, وإلّا تَاذنَ لي فلن أسالكَ من أمرِ غُلامي شَيئاً وَ وِزراهُ . وَلَدي مُغبَرُّ الأثامِ أهوجٌ في عُتِيِّهِ وكانَ أغبراً في صِباه , إستَجارَني فَأجِرني فيهِ من خَطاياهُ. هوَ ذاكَ وَغْدٌ غَبيُّ شاردُ الفكرِ سَاه !إنكَ علام الغيوب فهوَ ذا الذي خاضَ في مُستَنقَعِ الدّار إيّاهُ ! وإنّي ربّاهُ :أشهدُ لهُ بحُبِّهِ لجلالكَ و ببغِضِهِ من أَنكَركَ وأبغَضَ رَسولَكَ وعاداهُ . قد أقَلَّني في رمضانَ من بغدادَ حتى بئرِ زمزمَ فأرتَويتُ بيدَيهِ من سُقياهُ. قد صَلَّيتُ خلفهُ لَيلةَ القدرِ في حِجرِ إسماعيلَ الزَّكيّ ذِكراهُ, وقد سَخِرَ من عَرَقِ جَبيني - بينَ الصّفا والمَروةِ - ضاحِكاً يَعَضُّ بِشِفاهِهِ ويَدلُكُ بِلِحاهُ . قد كانَ يَنهَرُني؟ نعم, ولكن لا حقوقَ "أنا مسامحاهُ" رَبَّاهُ! ربما كانَ يَشتمُني؟نعم, ولكن لاعقوقَ سامحتهُ رَبَّاهُ !
إنّهُ ما صَبَرَ على وَخَزَاتِ ابرَةٍ, أفَيَتَصَبَّرُ على سَقَرٍ وسُعراهُ ؟ هو من هولِهِ يَبتغي مُحاجَجَتي آملاً في حقِّ إبهامٍ أرتَجاهُ !
فأنًّى ليَ تركَ وغدٍ مُغبَرٍّ هاهنا بينَ الخلائقِ يا الله !أعتقهٌ لأجلِ حضني كرةً أخرى هاهنا , ربّاهُ .أنّي لأطمعُ في قَبَسٍ رَحمَةٍ من السلام تَظلَّهُ فتَغشاهُ .
أسألُ رَبِّيَ الملك وبهِ أستجيرُ ومَن يُجيرُ سُواهُ؟